ستار كاووش
خرجتُ من باب البيت، فواجهني متجر (ستيفانو) كما تشير اليافطة التي كُتِبَ عليها الأسم. فقررت التبضع قبل تجولي في المدينة، حيث أقضي بضعة أيام في فلورنسا.
حييتُ صاحب المحل ستيفانو الذي كنتُ قد تعرفتُ عليه قبل يومين، واخترت حاجتي من قناني النبيذ والطعام، ثم سددتُ الحساب ووضعت المشتريات في كيس، وقبل أن أخرج إلتَفَتُّ الى ستيفانو وسألته (قل لي من فضلك، في أي جهة من المدينة بالضبط يقع متحف النحات مارينو ماريني؟) فنظر اليَّ بشعره المصفف بعناية وشاربه الرفيع الذي ذكرني بالممثل ديفيد نيفن، ومسح كفيه بصدريته البيضاء بعد أن توقف عن ملء الرف بقناني نبيذ جديدة، واقترب مني مشيراً الى ركن الجادة التي أسكن فيها قائلاً بلغة انجليزية علتها نغمة ايطالية جميلة (المتحف يبعد عشر دقائق مشياً من هنا، عليك أولاً اجتياز ساحة سانتا ماريا ثم تمضي يساراً بين الشوارع الضيقة، لتتخطى بعض متاجر المصنوعات الجلدية، وهناك ستظهر لك يافطة صغيرة تشير الى المتحف) ثم أردفَ (رائع إنك ستزور متحف هذا الفنان، لأن أغلب السائحين يسألون عادة عن مطاعم السباكيتي والبيتزا!).
بعد ربع ساعة كنت أقف أمام المتحف الذي بني على مكان مرتفع ببوابته الحديدية وواجهته الأسمنتية الضخمة التي تعكس بشكل ما قوة ومتانة أعمال الفنان ماريني (١٩٠١-١٩٨٠). صعدت درجات السلم الذي أحاطه من الجانبين تمثالان لأسدين قد بدت عليهما بصمات الزمن، ودخلتُ المتحف، لينفتح المكان واسعاً، حيث تقف فتاتين أنيقتين خلف مكتب الاستعلامات، وحين هَمِمتُ بإخراج محفظتي لشراء تذكرة، بادرتني الفتاة السمراء القريبة مني قائلة (لا داعِ للدفع، المتحف مجاني) شكرتها واعدتُ محفظتي الى مكانها وأنا أردد مع نفسي (ها أنتِ وفرتِ لي ثمن البيتزا والنبيذ)، ودخلت الى عالم هذا النحات الفريد الذي أحببته منذ دراستي في أكاديمية الفنون ببغداد.
يتكون المتحف من أربعة طوابق واسعة، أغلب سقوفها عالية ومقوسة، وقد شكلت هذه السقوف مع الكثير من النوافذ المقوسة أيضاً، خصوصية وفرادة للمتحف ومنحته فضاءً مناسباً، تجوب فيه تماثيل هذا الفنان الذي ولد في مدينة بيستويا القريبة من فلورنسا، وهذه الأخيرة تعتبر مركزاً فنياً وإبداعياً عظيماً كونها مدينة مايكل أنجلو ودانتي ودافنشي وغاليلو وغيرهم من العباقرة. وهنا، على مبعدة بضع دقائق من هذا المتحف كان قد بدأ ماريني دراسته في أكاديمية الفنون وهو في السادسة عشرة من عمره، ليمضي في طريق النحت على خطى أسلافه العظام. وقد تنقل هذا النحات من مدينة الى أخرى، باحثاً عن عناصر ودوافع تلهمه وتضع قدميه على الطريق الصحيح، فذهب الى روما، ثم زار باريس ليلتقي بالرسام السريالي جيورجيو دي جيريكو، لينتقل بعدها الى سويسرا ليتعرف على نحات فريد يقاربه في العمر والطموح والأحلام الكبيرة وهو البيرتو جياكوميتي، ليشد رحاله بعدها الى نيويورك حيث تواصل هناك مع الفنانين هانس آرب وماكس بيكمان والكساندر كالدر، لتكون رحلته الأخيرة نحو لندن، حيث مشغل النحات الشهير هنري مور ومنحوتاته الغرائبية. وقد شغل ماريني سنوات عديدة منصب أستاذ النحت في أكاديمية ميلان.
إضافة لأعماله التي تناولت نساء بوضعيات مختلفة، وبعض الوجوه وحركات الناس، كان العنصر الأساس أو المفردة الرئيسة التي عمل عليها ماريني طوال حياته هي مفردة الحصان والفارس، ومن هذه الثيمة استطاع أن يتجول بين تعبيرات وإيحاءات وتكوينات أثرت على مسار الفن الحديث. ومئات من هذه الخيول توزعت في هذا المتحف وهي تتحرك بإيماءات تعبيرية، تقترب من السقوف هنا، لتنحني قرب الأرضية هناك، خيول تبدو من بعيد في حالة سكون، لكن حين نقترب منها تظهر انفعالاتها التي تقاسمتها مع الفرسان الذين يمتطونها بشاعرية امتزج فيها اللعب والاندفاع والتساؤل وحتى الألم. كنتُ قد شاهدتُ أعمالاً متفرقة لهذا النحات في متاحف عديدة، وها أنا أقف وجهاً لوجه مع عالمه كاملاً، وأتجول بين مئات الأعمال التي أصبحت جزءاً أساسياً من تاريخ الفن، هنا أتأمل وأتحسس وأجوبُ عالمه الذي تصهل فيه الخيول وتتلوى وترقد، ثم تَكمَحُ رؤوسها نحو السماء لتثير تساؤلات، هي تساؤلات النحات ذاته نحو الوجود أو أزاء شكل الفن الذي ينبغي له أن يكون، حيث عمل هذا الفنان مخلصاً لتعبيريته التي سحبها مع الوقت شيئاً فشيئاً ليضعها على عتبة التجريد.
فنان من هذا الطراز لا يمكن الامساك به وبتقنياته ومعالجاته وتكويناته الغريبة خلال بضع ساعات، لذا قضيتُ يوماً كاملاً بضيافته الممتعة والجميلة، لأخرج بعدها لمدينة فلورنسا تاركاً خلفي صدى صهيل خيول وفرسان مرحين رغم أشكالهم الغريبة، تحيط بهم نساء ساهمات، وصالات واسعة تجوب فيها روح هذا الفنان وتتجول بين أعماله الخالدة. خرجتُ متعمداً الجلوس على ناصية أحد المقاهي التي تطل على المتحف، لأطلبُ بيتزا وقنينة نبيذ توسكاني، متقمصاً شخصيات السائحين الذين تحدث عنهم صاحب المتجر ستيفانو. لكني مع ذلك بقيت اتطلع الى واجهة المتحف واستعيد روح هذا الفنان العظيم الذي شعرتُ لحظتها بأنه يقاسمني النبيذ والبيتزا على ذات الطاولة.