طالب عبد العزيز
غالباً ما آخذ طريقي الى اماكن غير معلومة في المدينة، لدي جملة قرى وضواحي اعتدت المجيء اليها، وبلوغها، بل وتكرار خطاي على أديمها، هناك حبل سري خفي يشدني اليها، وأجدني مستسلماً ومنسجماً مع ما فيها من انهار وأشجار وعشب وشوارع وأرصفة،
لكنني، وبسبب من تقدم في العمر ربما، بت أشعر أنَّ ثمة اماكن أخرى، لها ما لها من وقع في الروح، عليَّ مشاهدتها. ربما لا تتباين الجغرافية في المدينة الواحدة كثيراً، وقد تصادفك ذات الوجوه وذات الانهار والاشجار وسواها مما تؤثث الطبيعة نفسها به، وهناك ما يتكرر من المشاهد، لكنَّ تكرارها يحمل معنى آخر لوجودها .
أذكر أنني سهرت مرة واحدة في نادي السكك، بالمعقل، الذي ما زلت الى اليوم اذكر مجلسي على إحدى طاولاته، ربما نسيت الاصدقاء الذين كانوا معي، لكنني، استحضر الساعة نوع الشجر والعشب والإضاءة، وقد استحضر الاغاني التي غنيناها في الليلة تلك. بالامس، وفي طريقي الى ضاحية النجيبية- التي لا يتذكرها البصريون إلا بوصفها أول محطة للكهرباء بناها الموسكوفيون الروس- مررت بنادي السكك، حيث سهرت هناك ذات ليلة، وقد احاطته يد الخراب من كل صوب، فلا سكة للحديد تخترقه، ولا حديقة معشبة ولا طاولات ملونة، وكل الاضوية انطفأت، غشيها الظلام، لم اتحسس موطئ قدم لي أو للاصدقاء هنا، احدهم همس في اذني قائلاً: "هناك خلل ما في تركيبة التذكر، احدهم عبث بمنظومة الجمال فأحال المكان مكباً للوحشة والظلام".
لم يسرق مشهد التأسي مني إلا التفاتة سريعة، فقد شُغلت بالتطلع الى رافعات الميناء المتوقفة منذ عقد واكثر، وبالسماء المتحركة حولها، وبالكتابات الشائهة التي على سور المبنى الضخم، الذي كان معنى من معاني حياة البصريين، فمن المكان المحصور بين شط العرب ببواخره الالف وشارع اجنادين وسكة الحديد ونادي البورت ولوندري غسل الملابس ودار السينما كان العراقيون يتنفسون الجمال، ومن اصقاع الدنيا كانت السفن تحمل اليهم متطلبات حياتهم، ومنه ايضاً كانت الدنيا تمد يدها فتغرف ما تشاء من التمر والحبوب والفاكهة وكل ما يغرس في ارض العراق- لكنَّ وجهتي كانت النجيبية- ما الذي يجعلني خارج حدود الجغرافية الصغيرة هذه، كانت النجيبية مادة كهرباء البصرة، وكان لزاماً على الشركة التي اسسست لها بناء دور لمهندسيها وعمالها وعموم موظفيها، في البقعة التي تطل على شط العرب، حيث تتنسم المنازل بساكنيها عبق ريحه وشذى عطر ورود حدائقه.
كان عليَّ أن أقفر سياجاً من حطام الحديد كي اصل المكان، الذي انتخبه صاحبي مجلساً لنا، قبالة الشط، كانت القوارب ذاهبة وآيبة تحمل الناس بين ضفتيه، فقد ظل الجسر الحديدي مقطّع الاوصال، فمشيئة المقاولين والمسؤولين (الامناء) جداً قضت بتوقف الزمن فيه، واستحالة اكمال اصلاحه، فقد وجدوا فيه ضرعاً منسياً فراحوا يحتلبوه. لنترك الجسر ونتأمل نادي كهرباء النجيبية، الذي صار خلفنا، والذي لا يبين منه سوى متدرج الطابوق الذي يصل حديقته بالماء. يقول صاحبي، كانت الموسيقى تنبعث من النادي عقيب كل مساء، وكانت الاسر تلتقي على عشب حديقته، وعلى أرائكه أقيمت ولائم الزيجات والمناسبات الجميلة، وفي الركن ذاك، الذي يطل على الشط مباشرة كان يجلس ابي مع زملائه الموظفين، كان ببذلته الانيقة يحمل أقداح العصير لامّي وزميلاتها.
وفيما كنت اصغي لدويّ مكائن القوارب غير المنقطع، وأتأمل الزمن بجريانه المتعثر في الروح، فوجئت بامرأة تقذف كيس النفايات في الشط. كان صوت الكيس وهو يفرقع بقناني الزجاج والعلب البلاستيكية وحافظات الاطفال أكثر من مروع لي ودعوة لمغادرة المكان، يقول صاحبي بان الحواسم اتخذوا من النادي مكانا لسكناهم، واتخذ غيرهم الامكنة الشاغرة الاخرى في النجيبية مساكن ومحال تجارية، ولم يبق مما كان ارجوزة للجمال والرقي والتحضر إلا ما ترعى الابقار فيه الان. قلت إن أسوأ انشغال هو انشغال العارفين بجغرافية بلاد عهدت لأسوأ خلق الله فيها.