علي حسين
أحاول دائمًا أن أتذكر، وأنا أقرأ وأُشاهد أخبار هذا الوطن، تجارب الشعوب التي عانت الظلم والاضطهاد. في كل مرة أقرأ سيرة جديدة عن مانديلا، أو غاندي، أو ماجرى في ألمانيا على يد أديناور العجوز الذي قاد بلاده وهو في سن الثالثة والسبعين واستطاع خلال سنوات قليلة أن يجعل من ألمانيا المهزومة، واحدًا من أقوى اقتصادات العالم.
يصنع التاريخ أولئك الرجال الذين خرجوا من طائفيتهم ومذهبيتهم إلى فضاء أوسع، المتعصب لايصنع اللحظة التاريخية. لم يكن غاندي صاحب ائتلاف كبير ، ولا نادى بدولة القانون، ولا رفع شعارات عن الإصلاح والتكنوقراط، كان مجرّد رجل نحيل يرفض أن يخدع الناس بخطب زائفة.
بالأمس امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي ومعها بعض الوكالات والفضائيات بصور مسؤولين وضباط كبار وهم يهرعون صوب مخيم "يحياوة" في كركوك لمتابعة قضية الطفل الذي اثار ضجة في مواقع التواصل الاجتماعي وهو يطالب الدولة بانقاذه من الاغتصاب ووقف الاعتداء على عائلته، وقرأنا معلقات عن القانون والعدالة الاجتماعية وحماية الأمن، لكن المعلقة الأهم حول غلق هذه المخيمات لم يقلها أحد حتى هذه اللحظة التي يرفض فيها البعض عودة هؤلاء المهجرين إلى بيوتهم.
قبل أيام قرأت تقريرًا مثيرًا عن رواندا، هذا الاسم بالتأكيد سيذكركم بالمليون قتيل تقطعت أجسادهم بالمناجل، في معركة بين طائفتين، وكان العالم يشاهد عبر الفضائيات عشرات الألوف من الناس يسيرون خلف بعضهم البعض وعلى رؤوسهم طعام قليل وملابس، كان هذا كل ما يملكون.
والآن التقارير التلفزيونية والصحفية تخبرنا أن رواندا تحولت من "الإبادة الجماعية" إلى عاصمة السياحة في أفريقيا، فقد تغير الوضع حين قرر ساستها أن يبدأوا مشروعًا حقيقيًا للمصالحة، وليس مشروعًا على غرار المشاريع الكوميدية التي كان يطلقها عامر الخزاعي ، فقد اعتمدت الحكومة سياسة "الاتحاد والمصالحة"، لتحقيق التسامح بين الناس واستئناف العيش المُشترك. وكان أهم قرار أن كثّفت السلطات الجديدة الجهد للقضاء على الفساد المالي والإداري، كما توجّهت السلطات إلى الزراعة كونها النشاط الرئيس للبلاد حينها. وخلال سنوات قليلة، بدأت النتائج تظهر، فقد حققت رواندا أحد أسرع معدلات النمو في العالم، متفوقة على إيطاليا والبرازيل والهند.
يا سادة ياكرام لقد مات مئات الأطفال في مخيمات النازحين دون أن يتكرم أحد بالتقاط صورة مع أمهاتهم ، لكن نقلت لنا الفضائيات صورًا أخرى لمسؤولين وهم يصرخون في القضائيات حول المحاصصة التي استبدلوها بالتوازن .
عندما وضع العراقيون القدماء علم الحساب، لم يكونوا يدركون أن أحفادهم سيتحولون إلى أرقام في سجلات الموتى والمشردين، والباحثين عن الطمأنينة والأمان.
المشكلة لم تكن في الصور، ولا في الزيارات العاجلة ، بل في الظلم الذي يتعرض له اطفال ابرياء يرفض البعض عودتهم الى بيوتهم ومدارسهم.