TOP

جريدة المدى > ملحق اوراق > استعمالات الكتاب

استعمالات الكتاب

نشر في: 15 مايو, 2010: 04:20 م

محمد خضير1-غريزة الكتاب شكل سيماء الكتاب (غلاف، حجمه، علامة دار نشره، سعره،وقبل كل شيء عنوانه واسم مؤلفه) هي التي تجذب قارئاً نا لاقتنائه ، ثم قراءته تأتي القراءة استجابة لجاذبية هذه العلامات التي تميز كتاباً عنكتاب، ان هذه العلامات هي التي تحرك في القارئ ما اسميه "غريزة الكتاب"
 أي الهاجس الخفي الذي يحرك الروح القرائية كي تخرج من مكمنها العميق وتروح تجوب الشوارع والاكشاك والمكتبات بحثا عن كتاب ظل يبعث باشارات الاقتناء والقراءة من مكان قريب او بعيد. وقعت في شراك هذه الغريزة مذ كنت تلميذاً في المدرسة الابتدائية واذ يعود التلاميذ الى بيوتهم بعد انقضاء ساعات الدراسة، اروح اذرع الارصفة باحثا عن غلاف جذاب لكتاب يروي فضول غريزتي الشرهة، بين مئات الاغلفة والعناوين التي يفرشها باعة الكتب في مفترق الطرق والاسواق ، كان سحر الكتاب المعروض في العهواء الطلق ينبعث من سحر اخر تنشره المدينة من ثنايا سريرها المضمخ بعطر الورق القديم الذي تفترشه، وكنت مأخوذاً بهذا العطر كما يؤخذ مراهق بغريزته الى مخدع الافكار والاخيلة الباذخ بمفاتن عرائسه الورقية. لم اصح من حلمي البعيد حتى اليوم، وما زلت اتبع ذلك العطر الورقي ما ان تعلق عيناي بأذيال كتاب ينهض عنوانه من قارعة الطريق ويسير امامي الى حيث اعلم ولا اعلم، كان اقوى عطر ورقي اجتذب غريزتي مذ عرفت القراءة، عطر سلسلسة كتب (الهلال) ومجلاتها الواصلة بالطائرة بسعر عشرة قروش ، كنت ابذل جهوداً شاقة كي اغادر البيت وفي جيبي القروش التي سأدفعها ثمناً لكتاب واحد من هذه السلسلة ثم لما تعلمت حيلة الكتابة، عمدت الى ان انشر في الكتاب الذي أولفه عطر الخيال المعتق الذي يشبع غريزة القارئ من عطر ورق الصحف القديم. نمت غريزتي، غريزة الكتاب، يوماً بعد يوم، وكتاباً بعد كتاب، وكنت اتأخر عن رفاقه صفي المدرسي كي انعم وحدي بصور العودة الى البيت المبثوثة في طريقي شجرة تنمو بهدوء خلف سياج، عمود كهرباء يرقد مع مصباحه بعد سهاد، صندوق بريد مطلي باللون الاحمر، كتاب ملقى في صندوق قمامة، نافذة مفتوحة تتسلل منها نغمات عود نحيلة، أسد من الاسود التي صارعها (بشر بن عوانة) كنت اعانق هذه المسرات اليومية بحاستي النامية، والقي عليها التحية المناسبة، او اعيد تشكيلها وأضمها الى كنوز غريزتي المتفتحتة ، كنت استذكر في مسيري ابيات قصيدة من "النمط الصعب والمخيف" هاذيا بالفاظها وانغام اوزانها وشكل سطورها المجزأة الى شطرين متقابلين متصفحا في ذهني (الكشكول) الذي نقل منه معلمنا القصيدة على السبورة السوداء، كان شكل دفتر القصائد في يد المعلم يختلف عن شكل كتاب المطالعة المطبوع لمرحلتنا الابتدائية السادسة، ففطنت حينذاك الى ان النصوص تختلف باختلاف مصادرها، وان الكتب تستتر مثل اشكال الحياة على طريق عودتي الى البيت فتستولي على اللب بسيماء ومضامين مختلفة، ثم الى وجود مؤلفين يرسلون النصوص من موقع مجهول، كم تقت انذاك الى ان اكون واحداً من هؤلاء المرسلين الثاوين في قلعة الكتابة منذ امد غير معلوم، وعند هذه المرحلة من احلام الطريق كنت آوي اتجاهي نحو العمق المتواري من المدينة ساعياً وراء كتاب يختلف شكله عن اشكال عطار او وحيداً مع أسد في فلاة مقفرة. يحق لي الان، بعد توطد هذه الغريزة وتساميها وانضمامها الى ممتلكات مشغلي، ان اعيد رسم طرق البصرة التي غالبا ما اكتشف نفسي سائراً فيها نصف سنوات القرن العشرين ، برواسمها وشواخصها وشخصياتها ، مكررا الخطوات نفسها التي قادتني الى مخابئ السحر الاول وأروقة الخيال الفتي، وهي تثوي في ذاكرة لم تهرم ساعة، ولم تقصر بوصة، ولم تنس حرفاً، من قراءة اول كتاب او صحيفة.  اتذكر ستة او سبعة مواقع لبيع الصحف والمجلات والكتب في مداخل (سوق الهنود) وأركانها، وثلاث مكتبات كبيرة تحت شرفات هذه السوق ونوافذها ولافتات "مغازاتها" وعيادات اطبائها وصيدلياتها ومحلات بهاراتها، ومثل هذا العدد من المكتبات في الشارع الرئيس بالعشار، ومكتبات اخرى في البصرة القديمة، فمن غير هذه المراصد الورقية لاتستطيع عين الزمان ان ترصد مكاناً واحداً داخل مدينة قامت بأكملها على اسواق الوراقين، ومدارس الفكر الاسلامي وحلقات الدرس النحوي، وملتقيات الشعر، واصوات الرفض والاحتجاج، وحكايات النهر والبحر والصحراء. اتذكر انني اشتريت كتابا من مكتبة الياس دورنة الاهلية، بدينار لا قيمة له، كان الكتاب من مؤلفات (غوركي) الذي تاقت اليه غريزتي وقصرت عنه يدي، وكنت اغدو على المكتبة بين وقت واخر في نهاية الدوام الصباحي، ايام كنت طالبا بالثانوية المركزية في العشار، اشاهد كتابي على الرف واطمئن على بقائه، وامني النفس بشرائه فلما ملكت ثمن الكتاب وكان دينارا من ضروب الدنانير الملكية التي ابطل العهد الجمهوري الجديد استعمالها، اسرعت الى اقتناء كتاب غوركي، اكتشف صاحب المكتبة حقيقة ديناري، لكنه قبله من دون اعتراض على قيمته الزائلة، وخرجت من المكتبة بكتاب ثمين مقابل دينار قديم ، هذه حكاية لا تحدث الا في زمان المدينة الذي تزدهر فيه غريزة الكتاب العلياء وتنخفض فيه غرائز الحياة الدنيا وزيفها. rn2- لذة المطبوع قراءة الجريدة اليومية عادة اكتسبناها ص

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

دستويفسكي جوهر الروح الإنسانية

دستويفسكي جوهر الروح الإنسانية

لكن الفكرة المركزية التي سيطرت على دستويفسكي كانت الله والذي تبحث عنه شخصياته دائما من خلال الأخطاء المؤلمة والإذلال.يقول دستويفسكي على لسان الأمير فالكوفسكي في رواية مذلون مهانون (.... لكنك شاعر ,وأنا إنسان فان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram