ستار كاووش
الكتاب شيء أساسي في حياتنا ولا يمكن الاستغناء عنه مهما حدث وتحت اية ظروف وفي جميع الاحتمالات؟ فهذا الصديق الساحر والغامض والغريب والمحبوب يعتبر في مقدمة متطلبات ثقافتنا ومعرفتنا وتطلعاتنا، ومعه نجوب جغرافيات العالم شرقاً وغرباً بلا عوائق ودون حدود،
لكن رغم هذا الدور ومع هذه الأهمية التي لا يمكن إهمالها، هناك ظروف يتعذر فيها على الكثيرين الحصول على الكتب، بسبب غلائها بشكل عام أو صعوبة توفرها في بعض الأماكن أو افتقار بعض البلدان لوجودها أصلًا. وإضافة الى هذه الأسباب، أُضيفَ سبب جديد يتعلق بمشقة الاختلاط بين الناس جراء انتشار فايروس كورونا، وتردد الكثيرون في الذهاب الى المكتبات العامة او مخازن شراء الكتب، لذا تلجأ بعض البلدان التي تكون الكتب شيئاً مهماً في ثقافتها وتمتد القراءة مئات السنوات في تسلسل حضارتها الى بعض الحلول العملية والجمالية والسهلة، كي تصل الكتب للجميع بطرق آمنة ومريحة وبدون عناء، وحتى دون تكاليف أحياناً، مثلما حدث معي هذه الايام، حين عدت الى البيت بعد جولة مسائية، لأجد أن بلدية المدينة التي أعيش فيها، قامت بنصب مجموعة من الاكشاك الصغيرة في شوارع المدينة، وأطلقت عليها تسمية (محطات الكتب)، فتوقفتُ امام المحطة التي قرب بيتي، وقرأت الأرشادات الثلاثة التي تقول (هذه الكتب لك، فخذ الكتاب الذي يعجبك مجاناً، ويمكنك أن تعيده بعد القراءة أن أحببتَ ذلك، أو تعيده وتضيف له كتابًا من كتبك التي قرأتها ولست بحاجة اليها، أو تحتفظ به لنفسك ولا تعيده) اخترت رواية بعنوان (نقود مزيفة لأعمال بيكاسو) شدني عنوانها الغريب، وسأعيدها بعد القراءة ومعها كتاب من مكتبتي عن تولوز لوتريك، كهدية للمحطة.
لجأت البلدية الى هذه الخطة الجمالية، كي لا يكون الزخم كبيراً على مكتبة المدينة بسبب الخوف من الاصابة بعدوى كورونا، ووضعت هذه المحطات في خدمة الجميع، وخاصة الاشخاص الذين لا يرغبون بالدخول الى الأماكن المزدحمة، وهكذا، ما عليك سوى ان تأخذ الكتاب الذي يعجبك، وأن أردتَ أن تعيده، فليس شرطاً ان تكون الاعادة الى ذات المحطة التي اخذته منها، فلا تشغل نفسك بذلك، ويمكنك ان تضعه في أيَّة واحدة تكون قريبة منك أو متاحة لك. وهكذا تدور الكتب في المدينة وتتنقل بيسر ومرونة بين الناس، وتكبر هذه المحطات مع مرور الايام وتضاف اليها كتب جديدة ليس لأصحابها حاجة بها، بعد ان انتهوا من قرائتها.
لقد انتشرت هذه الفكرة في سنوات سابقة أيضاً، ووزعت بعض اكشاك الكتب المجانية هنا وهناك، لكنها كانت محدودة، وكنتُ قد استثمرتُ ذلك بطريقة ما، حيث كنت أتعمد نسيان واحد من الكتب الفنية التي طبعت فيها لوحاتي في القطار او الباص، وليس هذا فقط بل كنت أقوم بكتابة إهداء على الكتاب للشخص الذي سيعثر عليه، وهذا يشبه الى حد ما طريقة الهولنديين الذين يشترون قبل سفراتهم كتبًا مستعملة لا يتجاوز ثمن الواحد منها يورو واحد، ويقرأونها أثناء السفر، ثم يتركونها هناك عند عودتهم.
وفيما يتعلق ايضاً بالكتب، هناك ما تقوم به الحكومة الهولندية بالاتفاق مع شركة القطارات عند صدور كتب معينة، حيث يُسمَحُ لمن يشتري الكتاب الجديد أن يسافر ويجوب كل هولندا بالقطار مجاناً طوال ذات اليوم، وهذا ما فَعَلتُهُ في فترة ماضية حين اشتريت كتاب الكاتبة آنّا إنكويست (حاملي الثلج) وقطعت هولندا من الجنوب الى الشمال بالقطار مجاناً لمشاهدة معرض إيليا ريبين في متحف خروننغن.
هنا عرفتُ كيف يكون اقتناء الكتب أو تبادلها ومنحها جزءًا من ثقافة البلد والتواصل الجمالي بين الناس، وشخصياً كنت دائماً أنظر الى لوحاتي كونها كتاب مذكراتي الذي تغفو فيه أيامي، ولم أتوقف عند هذا الحد، بل ذهبتُ بهذه الفكرة بعيداً بعض الشيء، وإستثمرت شكل الكتاب بعد أن رسمت لوحات ليست مستطيلة أو مربعة بل تأخذ هيئتها الخارجية شكل الكتاب المفتوح، وبهذا تكون اللوحة بالنسبة لي هي الكتاب الفعلي، من ناحية الشكل والمضمون أيضاً.