TOP

جريدة المدى > عام > قصة قصيرة: حقل المحار

قصة قصيرة: حقل المحار

نشر في: 26 سبتمبر, 2020: 07:28 م

سمير غالي

يسميه الناس هاشم محارة . لايعرف أحد من الحراس الليليين عنوان بيته ، لكنه عندما يغادر مبنى الكلّية عند الفجر ، يتخذ بدراجته الألمانية درب محطة القطار،

وما أن يعبر سكة الحديد المتاخمة للبيوت الحكومية الواطئة ، حتى تلاحقه كلاب الخرائب المحيطة بالمدينة، فيختلط نباحها بهدير محرك دراجته لفترة طويلة، قبل أن يغيبه غبار الطريق.

كان شديد السمرة، شارف على الستين ، يعتمر كوفية سوداء على الدوام، وتحيط وجهه المجدور لحية بيضاء شذبت بعناية. جاءنا منقولاً بِعقُوبة من كلّية تمتاز البنات فيها برقابهن الطويلة المخنوقة بعقود اللؤلؤ. وطالما سألناه عن تلك الرقاب ، لكنه كان يزم شفتيه بخيط من الأسى ويغادرنا متذرعاً بقضاء مافاته من الصلاة ، فيختفي طيلة الليل ، ولا يظهر إلا عند الفجر ، معروق الوجه ، وقد ابتلت لحيته بالدموع.

ولم أكن من النوع الذي يكترث لاختفاء حارس ليلي، فقد أورثتني قراءة الكتب عقدة ذميمة ، وهي ذلك الشعور بأفضليتي على الحراس ، وبأنني لا أنتمي لعالمهم المحصور بالبنادق القديمة والكلاب ودخان المواقد وأباريق الشاي المطلية بالسخام . لكن تغير أحوال البنات في كليتنا وظهورهن كل صباح برقاب طويلة مطوقة بعقود اللؤلؤ جعلني أقتفي أثر هاشم محارة بعد اختفائه ذلك الغروب .

كانت العتمة شديدة ، فاستعنت بمصباحي اليدوي ومضيت نحو ملاعب التنس. أجفلت الزرازير على شجيرات الغرب التي سورت الحدائق هناك . ثم بحثت في المسابح المغلقة . كان السكون يعم المكان، وليس سوى صدى إيقاع تحدثه قطرات تسقط بتتابع ممل داخل الحوض من حنفية معطوبة. دخلت المبنى. فتشت قاعات المحاضرات في الطابق الثاني فلم أجده. ألصقت أذني على كل أبواب غرف الموظفين علّي أسمع صوتاً ولكن دون جدوى . صعدت إلى سطح البناية. تأكدت من المراحيض في الأسفل ، ولم يكن هاشم موجوداً في أي مكان. لم يبق غير ملعب كرة القدم . ذهبت لإنارة أبراجه الأربعة. ليتني مت قبل تلك الليلة ولم أمر من هناك. كان ثمة نشيج يقطع القلب ينبعث من غرف المنازع حيث تستبدل البنات ثيابهن الرسمية بملابس التدريب . توقفت . دفعت الباب رويداً رويداً ، وسلطت دون حياءٍ بقعة الضوء عليه . كان يضم إلى وجهه بعض الملابس الداخلية ويبكي بحرقة تعز على الوصف.

لم أشاهده بعدها، أخبروني انه قدّم طلباً ملحّاً بنقله إلى كلية أخرى، لكنني لم أشاهد في حياتي كمية من اللؤلؤ، مثل التي شاهدتها في ملابس البنات تلك الليلة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram