طالب عبد العزيز
بين الفسيل الذي غرسته العام الماضي ومخطوط الكتاب الذي أمامي، على الشاشة الزرقاء زمن متحرك، قد لا أجد تسمية تفي بالمعنى هنا، لكنني سأسميه الانتظار، الذي منه حركة الساعات والدقائق ومخادعة الموت والالتفاف عليه،
في سعي أحاول فيه الهداية والانجذاب الى سعادتين لا تفريق بينهما، مع يقيني بأنْ ليس كل انتظار مجدٍ، جالب للبِشْر والهناء، إذ هناك زمن يتحرك في الخيبة والخذلان وانغلاق الافق أيضاً، لا أقرب في الحديث عنه، لذا أجدني أُسْعَدُ وانا أنفق الزمن في غرس وسقي ذاك، وفي تامله يخضرُّويكبر ويثمر ويغدو شجرة، مثلما أسعدُ في مطالعة وإعادة قراءة وتصحيح هذا، الذي قد أدفع به الى المطبعة ويصبح كتاباً. وهكذا لا أرى المسافة إلا ضيقة بين ما تجنيه من غرس يخضرُّ ويثمر ويضاف الى رصيدك في إعمار الأرض وما تجنيه من كتاب يطبع فيقرأ ويضاف الى رصيدك في صناعة الجمال.
ولا أكابد أمراً في منزلة هنا، فقد ورثت عن أسلافي المعتزلة ما يجعلني متوازناً بين منزلتي الغرس والكتابة، مثلما كانوا متوازنين في حكمهم على صاحب الكبيرة، ولا يبلغ سعادتي أحدٌ هنا، فأنا من جيل خُلقوا ليغرسوا ويكتبوا ويفاخروا، مع يقيني بانَّ الكتاب أخلدُ في الزمن، وانَّ الفسائل تأوول الى أعجاز خاوية، ولا مفاضلة هنا، لكنني، أتحدث بما هو بين يدي من وقائع يومية أحياها منتشياً، وادافع عنها مستقتلاً، ربما، لأنني شهدت قيامة جنة المدينة التي كانت ذات يوم، ولا أريد مغادرتها، وقد حُببَّ الادبُ والفن الى ناسها، ولي في صديق الشاعر بدر بن شاكر السياب، أستاذ الاجيال الشاعر محمد علي اسماعيل ورهطه الأسوة الحسنة، فقد كانوا أدباء غارسين وغارسين شعراء وكتبة، فوالله لن أنسى ما وجدته يوماً عليه، غير محتسبٍ بين السعف والعراجين بنخلة بيته، يفرق هذه عن تلك، ويدني جلابيب تلك من هذه، سعيداً منتشياً وقد جاور الثمانين بسنة أو اثنتين.
ولا ضير بقولي، بأنني وقبل دقائق من جلوسي هنا، مدوناً مادة الغد للجريدة، كنت قد تفقدتُ اكثر من فسيل وشجرة، غرستها في اليومين الماضيين، وإطمأننت عليها، فهي في منابتها ما زالت طرية خضراء تسرُّ، وملأت سلةً من رطب يتاخر ويطيب، كلما بردت الأرض وازرقت السماء. كيف لا، وهذا أيلول، خير شهر يغرسُ الناس فيه. ولكي أبدو أقرب لهذه وتلك، أجدني بين سعادتين صنعتُهما لنفسي، فقد أجيء أزرار اللابتوب بأصابع مغبرة متربة، او ندية بماء النهر، بعد اوبتي من ريٍّ وغرس وجني، وقد تجدني بثياب الوظيفة المنشاة المنتشية بالنشأ والمؤدبة بالمكواة أجول في طين السواقي، لا اتفادى السعف الطوال ويبيس الحلفاء والقصب وما عليها من الأتربة والأغبرة، وبما يغضب زوجتي، التي تصرُّ على ان أجعل لكل صنعة ثياباً، ألم أقل بأن الانتظار زمن متحرك؟
قد أقول: " بيتٌ من الشعر تغييرٌ لمسار إطلاقة" أو "أغنيةٌ واحدةٌ تهزم رهطاً من الجنود" أو "خطوات طفل الى المدرسة ترسم نهاية سعيدةً للعالم" لكنَّ بستاناً من نخيل واعناب لم يصمد ساعةً بوجه جرَافة في أبي الخصيب !! وقد شهدتُ ذلك بعيني .أتراني كتبتُ حقيقة ما؟ وأنا العالم بأنَّ شجرة دفلى في رصيف الشارع دليل على أن الحياة ما زالت ملونة، وأنَّ كوب الحليب الساخن أو فنجان القهوة في الصباح يؤخران حرباً محتملة، أما وقوف امراة في شرفة على البحر فهو استدارة الدبابة الى مخبئها بكل تأكيد.