ستار كاووش
ذات يوم، بينما كنتُ منشغلاً بلوحة جديدة في مرسمي القديم وسط ريف مقاطعة درينته، توقفتُ عن الرسم فجأة وتوجهتُ نحو النافذة، وما أن فتحتها، حتى داعبَ وجهي الضوء المصحوب بهواء الحقول الطري المنعش، هواء حمل معه اللون الأخضر وتسلل الى المرسم كأي صديق قديم،
لازالت تلك اللحظة الساحرة ماثلة في مخيلتي، إلتَفَتُّ وقتها نحو لوحتي ثم عاودتُ النظر الى مزارع الفلاحين القريبة، وقلت مخاطباً النافذة (أنتِ أجمل لوحة رسمتها الطبيعة) ومضيتُ أفكر بشكل النافذة التي خلقت كل هذا العالم الساحر، وإستغرقتُ بعيداً مع فكرة وجودها التي أراها تشير دائماً الى الضوء والأمل والغد وكل ما يكون في المقدمة.
كانت النافذة ومازالت أحد أهم مصادري في الرسم، فسيانَ عندي أن أرسم نافذة أو أطل منها، وليس هناك رمز دخل الى لوحاتي إكثر من النافذة، فهي المستقبل والأمل القادم، هي انتظار شيء ما، بشارة أو حبيبة، وهي ما تمنحني عيداً صغيراً حين يتراءى من خلالها طائرٌ ملونٌ يهفو بجناحيه ويحيل الفضاء الى قطعة موسيقية حالمة، إنها الطموح الذي يأخذني بعيداً لتحقق أحلامي، والطاقة الإيجابية التي أعكسها في لوحة أو مجموعة لوحات. النافذة مكان يجمع الداخل والخارج، ويفصل بينهما أيضاً، وبهذا المعنى تكون هي الحدود التي خرجتُ منها وعبرتُ نحو هذا العالم الفسيح، النافذة تعني الضوء والمحبة والنظر الى البعيد، هي الأفق المفتوح على الكثير من المعاني والأشكال والناس، هي طيف الأصدقاء الذين تركتهم بعيداً في بغداد وما زالت روحي تلـوّح لهم، هي كل هذه الأشياء مجتمعة، ومعها تفاصيل كثيرة وإحالات لا تنتهي.
النافذة وُجِدَتْ في الأساس كشيء نفعي لادخال الضوء وتهوية الأماكن، لكنها مع الوقت صارت رمزاً من رموز الحياة وأساساً من أسس الجمال، كما في النوافذ الكبيرة المعشقة بالرصاص في الكنائس، والتي تغفوا عليها رسومات تدخل الضوء واللون الى الداخل أثناء النهار، بينما ينعكس دورها ليلاً حين تُضاء القناديل، فتعكس رسوماتها الساحرة نحو الخارج.
يُعَرِّفونَ الفن كونه نوع من العودة الى الطفولة، وربما لهذا السبب استعيد أهم نافذة في حياتي، تلك النافذة التي تعيدني الى طفولتي، بعد أن رسخَ شكلها في ذاكرتي وثبتت رمزيتها في روحي، وأنا أسترجع أيام الصيف اللاهبة في بغداد، حين كانت أمي تمنعنا من الخروج ظهراً الى الشارع بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وقتها كنتُ أتَحَيَّنُ الفرص وأتحايل للخروج سراً، لكن الرقابة الشديدة كانت تحول دون ذلك، لذا كنت أجلس قرب نافذة بيتنا الصغيرة التي تطل علـى الشارع وأتطلع الى الناس وأراقبهم بحسد، ومن خلال تلك النافذة تعرفتُ على تفاصيل كثيرة، وكأني كنت أتقمص دون دراية شخصية الممثل جيمس ستيوارت في فيلم النافذة. مرَّتْ السنوات وبقي شكل نافذة بيتنا البغدادية ومعناها عالقاً في ذهني، وثبتت رمزيتها في داخلي، لذا أجد نفسي مستعيداً إياها دائماً وعائداً لرسمها مراراً وأنا أعيد اكتشاف رمزيتها وإشراقها في عشرات اللوحات ومئات التخطيطات والرسومات التحضيرية.
لا أَمِلُّ من النظر الى النوافذ وأنا أتجول أو حتى أتبضع أو أذهب في رحلة، وحتى عند اختيار مرسمي الذي تغير مكانه بين مدن هولندا العديدة، أنظر الى النوافذ أولاً، وأرى إن كانت تدخل إضاءة جيدة، ولم أكتفِ بذلك، بل اخترت مرسمي الحالي بنافذة زجاجية في السقف ليدخل الضوء من الأعلى أيضاً.
الابداع في الفن هو أن تجد مرادفاً تشكيلياً للأشياء التي تمر أمامك أو تداهم تفكيرك أو تعيش تفاصيلها، لذا حاولتُ دائماً أن أجد مرادفاً جمالياً للنافذة كشكل ومعنى ورمز، حيث رسمتها وهي تنفتح محتضنة حِزَمَ الضوء التي تستقر على أطراف الستائر مثل بقع إشراقات دافئة، فتمنح المكان غواية وأنوثة وحضوراً وتأثيراً لا يُقاوم، ومع كل هذه المحاولات كنتُ ومازلتُ أعتقد بأني لم أرسم نافذة بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، بل كنتُ أفتح نافذة من خلال اللون والخطوط والحساسية التي أملكها أزاء هذه المفردة الساحرة، أفتحها لتدخل غيمة أو امرأة أو تلويحة مع باقة زهور من صديق قديم أو صديقة مازالت تسكن القلب.