د.قاسم حسين صالح
لنبدأ من ثلاث حقائق:
• الأولى:ان انتفاضة تشرين/اكتوبر2019 انطلقت في المحافظات الوسطى والجنوبية ذات الأغلبية الشيعية،
• الثانية:لأن التظاهرات ضد احزاب الاسلام السياسي الشيعي تحديدا،كانت قد بدأت في شباط 2011،وقمعت بامر من حكومة المالكي،وعادت في 2014،وصولا الى 2019،فأنها اوصلت الشخصية الشيعية،بمفهومها الجماهيري،الى حالة العجز المتعلم من توالي خيبات الذي يفضي سيكولوجيا الى الاستسلام.
• والثالثة:ان احزاب الاسلام السياسي الشيعي اسهمت باشاعة السلوك المازوشي في الشخصية الشيعية،عبراللطم والنواح وضرب الزنجيل،واشغالهم بالماضي عن التفكير في تغيير بؤس الحاضر.
كان (العجز المتعلم من توالي خيبات وخذلانات) قد تحول الى يقين عند جماهير الشيعة تحديدا من أن الحال لا يمكن تغييره.والحق مع غالبيتهم،لأن من انتخبوهم تحولوا الى مستبدين وقتله استهانوا بالشعب من يوم ارسلوا أحد (مناضليهم) ليعطي الاوامر من على سطح العمارة المطلة على ساحة التحرير بقمع المتظاهرين في شباط 2011،ويوم قامت في ( 17 و 20 تشرين الثاني 2015) بالاعتداء على المتظاهرين بالضرب والكلام البذيء واعتقال اكثر من 25 منهم ما اساءوا الى احد،والطلب منهم التوقيع على تعهد بعدم المشاركة في التظاهرات،تبعها تعرض االي قضاء المدينة في محافظة البصرة في اثناء قيامهم بداية تموز (2018) بتظارة سلمية مجازة رسميا،وقيام قوات الامن بالتصدي العنيف للمتظارين بإطلاق النار بالرصاص الحي بشكل عشوائي نجم عنه استشهاد الشاب (سعدي يعقوب المنصوري)،وزادوها بشاعة وقبحا وعارا بتظاهرات الفاتح من تشرين اول /اكتوبر2019 في سابقة ما حصلت في تاريخ العراق السياسي،بقتل اكثر من(700) شهيدا واكثر من عشرين الف جريحا،لا ذنب لهم سوى انهم طالبوا بحقهم في وطن اعتبره حكّام الخضراء غنيمة لهم فتقاسموه،ليثبتوا عبر (17) سنة انهم الأسوأ في تاريخ العراق السياسي والأقبح بتاريخ الفساد في العالم!.
المفـاجأة
خمسة ايام بدأت بالثلاثاء الفاتح من تشرين اول/أكتوبر 2019،شهدت تظاهرات هزّت العراق وفاجأت محللين سياسيين ومثقفين اشاعوا ثقافة التيئيس كانوا على يقين بان الاحباط قد اوصل العراقيين الى حالة العجز التام.وكان بينهم من راهن على انها (هبّة) وتنتهي،لأن الشخصية العراقية،على رأي الراحل علي الوردي،أشبه بنبات (الحلفه) اليابس..يشتعل بسرعة ويخفت بسرعة.
وفاجأت ايضا علماء النفس والأجتماع بما يدهشهم.بل أنها خطّات نظرية في علم النفس تقول:اذا اصيب الانسان بالأحباط وحاول وحاول ولم ينجح،فأن تكرار حالات الخذلان والخيبات توصله الى العجز والاستسلام.فأطاح بها جميعها شباب وأشبال ادهشوا آباءهم والعرب والعالم!..واسقطوها في الخامس والعشرين بيوم جمعة (استعادة وطن)..متحدين الموت بصدور عارية وملاحم اسطورية،عايشت مشاهد منها. أحدها انني دعيت لالقاء محاضرة على المتظاهرين في ساحة التحرير بدعوة من قادة (خيمة جواد سليم) فانتهزت الفرصة باستطلاع الصفات التي احيتها انتفاضة تشرين في الشخصية العراقية،فكان اجملها في الآتي:
" الغيرة،الشجاعة،الاستعداد العالي للتضحية،التكاتف الملحمي،الثقة العالية بالنفس،التكافل، المروءة،الطيبة،روح التعاون،نصرةالمظلوم،اللعب مع الموت والاستهانة به،حب الحياة،الخوّه الحلوه،كرم بلا حدود،اعادة الصورة الحقيقية للعراقيين، "احبك يا وطني واحب ريحة ترابك" ،استرجاع الهوية العراقية وتجاوز الهويات الفرعية،بلاغة العبارة والاختصار في التعبير( اقالة رئيس الوزراء واستبداله بآخر عبارة عن تبديل راس الباتري..احنه طلابتنه بالمحرّك- لافتة)،التحرر من الاسترقاق الديني،تحطيم صورة المقدس البشري،الحس الوطني الجمعي لجميع الاعمار وحسن المعاشرة،الايثار،التضحية بالروح من اجل الحقوق،النظافة الاخلاقية اذ لم تحصل حالة تحرش كما حصلت بساحات تحرير في عواصم عربية اخرى،قتل الطائفية.."كان الشباب ينامون ببطانية واحدة ولا يعرف اي منهم من اي مذهب او عرق اودين "،العناد،اصرار المتظاهر على العودة لساحة التحرير بعد معالجته بالمستشفى،وحدة اهداف بعيدا عن دين مذهب عرق عشيرة،استعداد نفسي لمعاناة من اجل قضية وطن..والتحرر من عقدة الخوف من السلطة الحاكمة".
وتوثيقا للغيرة العراقية والكرم ودليلا على حب الناس للمتظاهرين ونقمة الشعب على الحكّام الفاسدين،شهدت ساحة التحرير:(تريلة ببسي واخرى ماء شرب،وبالة بطانيات،وامهات يوزعن لفات وخبز العباس،وشيش كص عملاق،وفتيات اتين بالتنور الى ساحة التحرير يخبزن للمتظاهرين،وقزانات تمن ، باجله برياني وفاصوليا وقيمة وكبه مدعبله وشوربة..وشاب متظاهر يركع امام فتاة متظاهرة لا يعرفها مقدما لها حلقة خطوبة) في مشاهد تسيل لها دموع تمتزج فيها انفعالات الفرح والألم وحب العراق!.
على ان الأهم انهم اضعفوا سلطة الرمز الديني في اللاوعي الجمعي للشخصية الشيعية، واسقطوا اعتباريا (قادة) كانوا يعدون انفسهم رموزا للشخصية الشيعية، وكشفوا نفاق ودجل قيادين شيعة يعتمرون العمامة،وسخّروا من اشخاص كانوا يعدّون انفسهم رموزا نضالية شيعية،واشاعوا بين جماهير الشيعة مفهوم دولة المؤسسات المدنية الحديثة التي تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة،واعادواالأعتبار لشيعة العراق باستذكار رموزها النضالية في ثورة العشرين كما فعل شباب الناصرية في ساحة الحبوبي،وادانوا الطائفية (انتقلت الى رحمة الله) في لافتات بساحات التحرير، واحيوا الهوية الوطنية المفعمة بحب العراق بشعارها (نريد وطن) مقابل الهويات الفرعية التي اشاعها الطائفيون وراح ضحيتها آلاف الأبرياء في حرب سخيفة كان يقتل فيها العراقي لمجرد أن اسمه عمر او حيدر او رزكار!
والنتيجة..هل نبقى نقدّم تضحيات؟!
من عام 2008 كتبنا عبر (المدى) وقلنا في الفضائيات ان قادة العملية السياسية العراقية لن يستطيعوا ان يتحرروا فكريا من معتقدات ثبت خطؤها،ولن يستطيعوا ان يجدوا حلّا او مخرجا لما هم فيه،بل انهم سيعرّضون ملايين الناس الى مزيد من الأذي،وستكون جماهير الشيعة هي المتضررة الأكبر..وحصل ما كنّا حذرنا منه.
وعدنا في عام( 2010 ) لنثبت ان العقل السياسي في السلطة مصاب بعلّتين:حول عقلي يرى ما هو ايجابي في جماعته وأنها على حق مطلق،ويضخّم سلبيات الجماعة الأخرى ويعتبرها على باطل مطلق..وجمود عقائدي يرى ان عقيدته هي المقدسة بطريقة يسبب خوفه عليها هوسا وسواسيا يضطره الى ان يغلق نوافذ تفكيره ويجبره على خلق الازمات،وقد وظفوها بخباثة في العقل الجمعي للشخصية الشيعية التي تقدس سلطة الرمز الديني.وقلنا بالصريح ان شخصا بهذه الصفات المرضية لا يصلح أن يكون قائدا لمجتمع تتنوع فيه الأديان والمذاهب والقوميات..وأنه سيتحول بحتمية سيكولوجية الى طاغية مستبد..لن يسمح حتى للأمام الحسين أن يتقدم نحو الخضراء مطالبا بأصلاح أمة جده!
تنسيقيات تشرين والانتخابات المبكرة
بافتراض ان الانتخابات المبكرة ستجري بموعدها (6 حزيران 2021)،وانها ستعتمد الدوائرالمتعددة،وستكون نزيهة وباشراف الامم المتحده والاتحاد الاوربي،وفي أجواء آمنة..فان واقع وضعها الحالي لن يضمن لثوار تشرين الفوز الذي ينشدونه،ولن يكون بمستوى التضحيات التي قدموها،لسبب رئيس هو:تعدد قياداتها وتنوع تنسيقياتها،وعدم تقدير حقيقة ان تفرقها يعطي فرصة الفوز لاحزاب تمتلك السلطة والثروة والفضائيات واحترافية التزوير.
وتوحيد التنسيقيات..ليست مهمة مستحيلة.ففي المحاضرة التي القيناها على متظاهري ساحة التحرير،نصحني القائمون عليها(خيمة جواد سليم) ان لا اتطرق لذلك خشية ان يسمعوني كلاما غير لائق..غير انني حين دعوتهم باسلوب اعتمدت فيه سيكولوجيا الأقناع،وافقواوصفقوا..وها نحن نجدد الدعوة لهم بأن ينعشوا القيم الأصيلة والجميلة التي احيتها انتفاضة تشرين في الشخصية الشيعية بشكل خاص والعراقية بشكل عام..فبزخمها السيكولوجي وعنفوانها الشبابي..سيستعيدون (أجمل وطن)!.