لطفية الدليمي
عندما يوهن الزمن ذاكراتنا نلوذ بالقصاصات ودفاتر الملاحظات ، ولكن أن يُطْلَبَ منك التخلي عن ذاكرتك ليتقبلك مجتمع آخر فتلك محنة تأخذك إلى العدم.
فزعت ونفرت نفور الملدوغ عندما أخبرنا المحاضر في جلسة الإندماج أننا لكي نصبح مقبولين - كمواطنين محتملين - علينا التخلي عن ذاكرةٍ أتينا بها من أوطاننا وإلا فإننا لن نبلغ الفردوس المرتجى.
قالها بوضوح بارد :
- تخلوا عن ذاكرتكم لتصبحوا مواطنين جديرين بالعيش في فرنسا . أسسوا لذاكرة جديدة باللغة وتشكيل منظومة عادات على أنقاض ذاكرة تثقل خطواتكم وتعيق تقدمكم في مدى الحرية .
ذاكرتي ؟ كيف ولماذا؟ كيان الكاتبة لايتشكل ولايدوم إلا على ذاكرة ومخيلة ؛ فمن سأكون حين التخلي ؟ وماالذي سيتبقى مني لأكتب ؟ هل أقتلِعُ أحد أهم مكونات شخصيتي مقابل العيش في مدينة تدحض تأريخي الشخصي ؟
تناولتُ في مسرحيتي (الكرة الحمراء ) التي كتبتها سنة 1993 موضوعة الذاكرة والنسيان . كان سؤال النص المحير بعد كارثة الحرب : هل نحتفظ بذاكرة الألم لنحول دون تكرار أسبابه ؟ أم نسعى للتخلص منها لنمضي قدماً؟
إحتدم الجدل بين فريقين ، أحدهما يرجو الخلاص من العذابات والأصوات والنحيب والصرخات التي تعشش في الرؤوس ، وفريق رافض يدحض فكرة محو الذاكرة ؛ إذ سيغدو الناس محض أجساد خاوية تستغلها القوى المهيمنة لتشكيل ذاكرة جديدة يغذونها بأفكار ومعلومات محدودة تضمن تدجين الجموع التي لاتعود تشكلُ خطراً على المجتمع.
توكِلُ السلطة لفريق من الأطباء القيام بعمليات تفريغ الذاكرات في مقرات سرية فيتظاهرون بأنهم يجرون عمليات تنشيط الأدمغة ، حيث يجري خطف مجموعات من الرجال والنساء ليؤهلوا ويصبحوا كائنات مطواعة بلا ذاكرات ، ويكتشف المناهضون حقيقة المشروع وتقوم مجموعة من المقاومين بعملية تحرير هؤلاء الأشخاص قبل استكمال محو ذاكراتهم.
ذاكرتي حصيلة عمر من الحب والحلم والألفة والحنين والروائح والموسيقى والتمرد والأغاني والمذاقات والنشوات والدموع والحروب والأمل ؛ فكيف أتخلى عنها ؟ هي ثوب طفولتي المطرز وصندلي الأحمر المقطوع، وظفائري المربوطة بشرائط وردية، وفستان مراهقتي الأنيق من قماش جورجيت بنما المنثور بأزاهير برية زرقاء خاطته الآنسة جانيت وأفاضت باتساع تنورته الجرسية وزينته بالتماعات أزرار لؤلؤية . الذاكرة هي حديقتي السرية التي ألوذ بها كل ليلة أحاور وأعشق وأستلهم القصص، هي أمسيات الصيف في شارع ( أبو نؤاس ) ونهارات الخريف التي وسمت طفولتي بألعاب تحت ظلال عناقيد الرمان وسعف النخيل في بيت صديقتي اليهودية مادلين لنحتفل معا بعيد العرازيل ( المظال) حيث يقام كوخ من سعف النخيل والأغصان في فناء بيت خالتنا خزنة زوجة رحمين الصائغ .
ذاكرتي هي اجتماع الأصدقاء على وليمة وفرح وسماع ، الذاكرة هي جولاتي مع صديقاتي في شارع الرشيد وارتياد دور السينما وحضور المسرحيات لفرقة المسرح الفني الحديث ومسرح الستين كرسياً ، ذاكرتي هي البحث عن فستان أنيق في شارع النهر أوفي أوروزدي باك ،أومعطف مطر لندني من محلات حسو إخوان ، الذاكرة هي ارتعاشات الحب الأولى عندما يلقي مراهق خجول أمام مجموعة من الفتيات رسالة مطوية على وردة ذابلة وَهُنّ في الطريق إلى المدرسة فلا يعرفن من هي المعشوقة ، الذاكرة هي مسكن أحلامي المتوهجة ورؤاي الباسلة ؛ فكيف أنجو بدونها ؟ من أنا بلا ذاكرة؟ لاأحد : محض إمرأة غريبة عائمة في فوضى عالم مضطرب.
وفي لحظة اعتراضي العقلي إتخذت القرار الحاسم :أن أغادر فرنسا بذاكرتي لأجتاز بها تحديات الكتابة و النجاة.