طالب عبد العزيز
في البرّية التي لم تكن برّية قبل ربع قرن، في المنفى المحشور بين الشط وطريق الاسفلت، في قرى الدويب والفداغية والدواسر والدورة، نزولا عند رغبة الجغرافيا الى شبه جزيرة الفاو، حيث ترفض الارض هنا معادلة السباخ مع الماء، السباخ بتطفلها على ما يزرع وينمو ويخضر والماء في محاولاته اليومية بالتطهير وسلخ الملح عن الاديم، هنا، حيث كنت في الحرب جنديا ذات يوم، أقمت ثلاثة نهارات وليلتين، أردتُ أن أوائم بين زمنين وجغرافيتين وتاريخين لا علاقة لهما ببعض، لكنني لم أفلح.
كانت المركبة التي أقلتني قد توقفت في (الدويب) هي بقايا قرية اليوم، لكنها كانت قبل ربع قرن قرية، غير منقوصة الحظ من الناس والارض والانهار والزروع والحيوانات والطيور، كلٌّ يأتيها أو يقيم فيها متنعماً، آخذاً منها ما وهبته الطبيعة، وكذلك كان حال بقية القرى الصاعدة الى البصرة أو النازلة منها حتى الفاو الجنوبي ورأس البيشة. الناس هنا كانوا لا يعرفون من البصرة إلا سوقها المزدحم، وشوارعها النظيفة التي لا يحسنون السير فيها، وبيوتها المغلقة غير الآمنة عندهم، ذلك، لأنَّهم إذا أرادوها لحاجة عزّت وسائل النقل عليهم، فباصات الخشب تحمل الجتَّ والعَرَقَ والخضار الى الكويت صباح كل يوم، ولا أحد فيهم يملك سيارة أجرة (تورن) اما صيّادوها فيدخلون عبادان والمحمرة بقواربهم، يربطونها ببعضها فتغدو مئة او مئتين، ثم يتبضعون السمن والسمك المملح وأوعية الطبخ وغيرها نهارا جهاراً، ويعودون قبيل مساء كل ليلة.
أسجلُ الاول من تشرين الثاني كاول يوم للمطر في البصرة، لقد جادت السماء على القرى اليتيمة هذه بغيثٍ دهم راعد مجلجل لأكثر من ساعة، فسالت الاودية وامتلأت الانهاروحمل الناس الى بيوتهم طيناً مالحاً كثيراً، اما نحن سكان السيارة البيكب، فقد نزلنا في بعض منزل مهجور، بناه فلاحون قبل ربع قرن ويزيد، ثم غادروه الى جهة ما في الارض. كانت الحيطان أو ما ظل منها تحدثنا طوال الليل بحديث النخل والماء والانهار والسمك المملح وطوّاشات تمر قادمات من ضفة الشط الغربية بعبادان والمحمرة والمحرزي وكوت الشيخ... يعبرن الماء الواسع بزوراق من الصفيح، ولا أوبة لإحداهن إذا غرق فؤادها بحب أحد هنا، فالنخل وارف وظليل، وفرص ارتطام الجسد بالجسد ليلاً متاحة للجميع، ذلك لأن التمر يفعل فعلته في الذكورة والانوثة على حد سواء، وطوبى لمن أفردت ذراعها لرجل.
يأخذنا الايروس الى ما لم يكن لنا بغية. لكننا، وفي ما أتيح لنا من النهار سرنا في طريق ظلت تتهدم عند طلائع جسورها، كانت البلدية الصقت بعض الاسفلت على ترابها، فانقشع او أكله المد، ولم يشخص من بيوت الطين القديمة إلا القليل، كانت البيوت (الحديثة) قد بنيت بالطابوق الاسمنتي وسقفت بالصفيح المبطن بالاسفنج، وكل النخل المغروس تواً أكله أو اقتلع بعضه جاموسُ المعدان، الذين فروا من أهوار شمال المدينة واستوطنوا المستنقعات، التي أحدثتها الحرب، منتفعين بالاحراش التي نبتت، وبالسمك الذي تربّى فيها. دخلنا متجراً صغيراً يبيع صاحبه فيه كل ما يحتاجه الناس هنا من الخضار والفاكهة واللحم والمعلبات الى ادوات الصيد والفلاحة والحبال والكهربائيات نزولا الى الثياب والحقائب المدرسية وأدوات العمل فالخشب والحديد وسواها، لذا فالناس لا تأبه دخوله حافيةً، غير متهيبة من اناقة البائع، الذي بدا كثير التردد على المدينة.
الناس هنا لا يتقون المطر إتقاءهم الشمسَ والرطوبة، فالصيف طويل وخانق، والمطر دهن أبدانهم وعطر ارواحهم، لذا، فهم كثيرون فيه. ليس في الدويب والفداغية والدواسر ودورة آل ابراهيم من لا يذهب للصيد حاجة او رغبةً، فتراهم يتقاطعون زرافاتٍ ووحدانا على الجادات والمماشي الضيقة، كيف لا والسمك زاد أنصاف الميسورين والفقراء، إذ لا اغنياء هنا، وهم زاهدون في كل شيء، حتى انهم لا يأسفون على سمكة أفلتت شباكهم أو قطعت خيط الصيد الذي بيد أحدهم.
المسارات التي يتخذونها على الدراجات سالكة الى النهر او تفرعاته الالف. كل الذين التيقتهم كانوا يائسين من حلم اصلاح الحكومة لأوضاعهم، وإذا حاججتهم بوجوب مطالبتهم لها أشاروا الى الجسور التي ظلت تتهدم تباعاً، الى الارض وهي تتراجع في السباخ والجواميس.