د. فالح الحمـراني
أسست انتفاضة تشرين الأول 2019 لانعطاف تاريخي لمرحلة ما بعد انهيار النظام الديكتاتوري في العراق عام 2003. وجاءت نتيجة لتطور الوعي الاجتماعي ـ السياسي، الذي اكد خيبة أمله في الحكومات المتعاقبة والأحزاب التي تزعمت العملية السياسية في مابعد انهيار الدكتاتور.
وكانت بمثابة استفتاء شعبي طوعي على العملية السياسة وأداء القوى الحاكمة، كان محصلته رفض النخبة السياسية التي وقفت وراء العملية السياسية، لسرقتها العملية السياسية، وتخبطها وعدم أهليتها ولا خبرتها في إدارة الدولة، فضلا عن خَلقها أجواء الاحتراب والعداء بين مكونات الشعب، وتعميق الخلافات القومية والدينية ـ المذهبية، وتورطها في الفساد الحكومي بشكل مفضوح، وتبذيرها عوائد النفط، الرافد الرئيسي للموازنة العراقية، مما أدى الى وضع الاقتصاد العراقي على حافة الانهيار.
وحققت الانتفاضة استقالة الحكومة السابقة لفشلها في تأدية مهامها والتزاماتها، وفرضت الإعلان عن انتخابات مبكرة لمجلس النواب ، ووضعت في مقدمة جدول الأعمال الوطنية تحسين الظروف المعيشية غير المرضية والخدمات ، والتخفيف من مستوى البطالة واجتثاث الفساد العام في هيئات الدولة. لقد جاءت الثورة ردا على عدم التزام الحكومات بالوعود بإجراء إصلاحات ، واستقرار الوضع. فقد ظل الوضع الأمني صعبا. في عدد من مناطق العراق ، لا سيما في شمال وغرب البلاد، وما زالت عصابات الدولة الإسلامية المتبقية غير المهزومة تعمل وأضيفت لها التشكيلات العسكرية اللاشرعية المنفلتة ، التي غدت دولة في الدولة، وبات سلوكها يهدد بعزلة العراق دوليا وهجرة السفارات الأجنبية منه. وهناك مخاطر جدية من تورط أو توريط العراق في النزاعات المتعلقة بالوضع في البلدان المجاورة (سوريا ، إيران). إن الانتفاضة الثورية، تطالب بضرورة إعادة النظر في أسس العملية السياسية والمرتكزات والنظريات التي قامت عليها.
وعبرت ثورة تشرين عن الحس الوطني والثوري المتجذر في الروح العراقية، ورفضها الأنظمة مهما تلبست في زيها وشعاراتها وأيديولوجياتها، اذا كانت أنظمة لا تخدم قضايا الوطن والشعب، وتسعى للاحتيال عليه وتحويله إلى بيادق رقعة شطرنج وكتم صوته. وتندرج في لائحة الانتفاضة المجيدة التي سطرها العراقيون منذ تأسيس دولتهم الحديثة بعد انهيار الدولة العثمانية. لقد واصل نشطاء انتفاضة تشرين تسطير الملاحم، من أجل تعديل مسار العملية السياسية، للتجاوب مع تطلعات الشعب، في نظام وطني بالفعل وديمقراطي حقيقي وعادل، ليكون بديلا حقيقيا وليس شكليا للنظام الديكتاتوري، الذي هيمن على العراق لعدة عقود ولما قبله من أنظمة استبدادية .
وما زاد من خيبة أمل العراقيين، ان نظام المحاصصة التجأ في ممارسته الى نفس ممارسات الأنظمة السابقة، وتمثل هذا على الأخص في مسلسل الاغتيالات للمشاركين في الثورة رغم طابعها السلمي، وعمليات الخطف والتغييب، دعك عن زج الناشطين في السجون، والعودة الى ممارسة التعذيب.
لقد هزت انتفاضة تشرين الوعي الاجتماعي، وانضمت لها الشرائح الاجتماعية المطالبة بالتغير الجذري، وليس التغيرات التجميلية، المؤقتة، الرامية الى الاكتفاء بتهدئة الأجواء، ومن ثم العودة الى السياسة الماضية، سياسة المحاصصة بين النخب، لتوزيع المناصب الحساسة، وموارد المال وممتلكات الدولة ومقدراتها وانتهاج سياسة خارجية تلحق الضرر بسيادة البلاد. ان العراق يبقى للجميع، ولا تفكر جماعة، كما فكر من قبلها طغاة ومستبدون وقصيروالنظر، باستدامة استئثارها في الحكم والتسلط الى ما نهاية، والتخطيط لنقل مراكز زعمائها الحاليين الى " الأبناء" و" الأحفاد" كما فكروا من قبلهم. ان الشعب كائن حي يتطور ويتغير ودائما ينشد الحياة الكريمة والعادلة، والسلطة التي تخلق له وطنا يمكن العيش فيه برفاهية وسلام وتضمن حقوقه وأمنه الشخصي، وتحرس حدود وطنه، ولن يصمت أبدا على الانحراف بأهداف العملية السياسية التي كان يتطلع لها.
لقد أنجزت انتفاضة تشرين الكثير، وبالدرجة الأولى إنها احدث تغيرا واضحا في اصطفاف القوى السياسية، وزعزعت بقوة وحدة القوى غير الشعبية، وأضعفت مواقع قوى ظلامية ولصوصية، كانت مثل الطفيلي تعيش على جسد المجتمع. ودفعت الانتفاضة في المقدمة قضايا حيوية للدولة والمجتمع، وجعل مؤسسات النظام القائم ان تكون حذرة في عدم الأخذ بمصالح الجماهير في قراراتها. وهي التي دفعت الى إعادة النظر في مواد الدستور ونظام الانتخابات، والسيطرة على معابر الحدود، والتضييق على امتلاك السلاح من دون مشروعية، وبالتالي انعكست برامجها على الأداء الحكومي الحالي.
فعلا ان الانتفاضة مستمرة في إنحاء البلاد، وتكتسب فعالياتها مختلف الأشكال، بيد ان الوقت قد حان لتحويلها الى حركة وكيان واضح المعالم يمتلك برنامجا واستراتيجية وترشيح ممثلين عنها، وان يكون لها فروع وممثلين في كل زوايا العراق للف أوسع الشرائح الاجتماعية حولها، والاستعداد للانتخابات القادمة، وفق رؤية موحدة تهدف الى المساعدة على انتخاب كل المرشحين من قوى المعارضة والإصلاح، للتضيق على أحزاب السلطة الحالية.
عند تحليل ما يحدث في العراق، لفت بعض المراقبين النظر إلى حقيقة انه ولأول مرة منذ عام 2003 ، بدأت قوة جديدة تظهر في شوارع العراق وساحاته، غير مرتبطة بأي كتلة برلمانية أو أي حزب سياسي أو طرف آخر. اتحد عشرات الآلاف من الشباب العراقي تلقائيًا في تشرين الأول ، وطالبوا رسميًا برحيل جميع الموجدين في السلطة، كلهم دون استثناء. ولم يتنبأ احد اليوم ما الذي ستؤدي إليه هذه العملية ومن سيقودها. إن احتمالات حل الأزمة السياسية في العراق، التي كانت واحدة من أكثر الدول العربية نفوذاً، والتي شهد خلال خمسة عشر عاماً من عدم الاستقرار والحروب الأهلية، في الوقت الحالي غير واضحة. وتتفاقم الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الفساد على نطاق واسع والحكم غير الفعال بسبب صراع الأحزاب والجماعات العرقية، مسترشدة بمصالحها الأنانية.
إن التاريخ لا يسير بصورة مستقيمة، ولا دائما ارتقائية، وهو موضوعيا معرض للانتكاسة والمطبات، ولم تتمكن المؤسسة الحاكمة في العراق منذ 2003 من اخرج التطور العراقي من انتكاسته التاريخية، والسير به في الطريق الصحيح، الطريق الذي يتطلع له سكان العراق بكل مكوناتهم، ولذلك خرجوا اليوم عن بكرة أبيهم في معظم أجزاء البلاد ،احتجاجا على مضي النظام الحاكم بنفس الطرق والوسائل التي سارت عليها الأنظمة السابقة، حيث غياب العدالة واستشراء الفساد والبطالة وانعدام الخدمات، واستفادة فئة ضيقة وبأساليب متنوعة من موارد الدولة، وتشكيل حكومات ( يمتد الصراع على المناصب التي تتحكم بالموارد المالية، خلف الكواليس على تشكيلها لفترات طويلة)، ليس لخدمة البلاد بل للسير في ركاب بعض النخب والبطانات التي شكلت لها مليشيات وتشكيلات مسلحة، لاستخدامها ضد الشعب عندما يخرج للمطالبة بحقوقه المشروعة.
أسباب الاحتجاجات العراقية معروفة، ترجع الى نشوء تفاوت اجتماعي حادة في البلاد. فإلى جانب الفقر الذي يعيشه معظم العراقيين، جمعت النخبة السياسية الفاسدة لنفسها ثروة ضخمة على حساب مصائب البلاد. ووفقا لمنظمة الشفافية الدولية، منذ عام 2004، تم تهريب 450 مليار دولار من رأس المال. ويحتل العراق المرتبة 12 في التصنيف الدولي للفساد.
ان الثورة لم تستنفذ قدراتها، إنها باتت " ثورة مستمرة" تقف خلفها طاقات حيوية وخلاقة، تدرك اهدافها بشكل واضح، والمتمثلة بإعادة العملية السياسية الى مجراها الذي يصب في خدمة الوطن، بخدمة المجتمع بكل شرائحه وانتماءاتها القومية والدينية. عملية سياسية تكون بديل فعلي للنظام الدكتاتوري المقبور، وتعمل على وضع الآليات اللازمة لأنعاش الاقتصاد وخلق مجتمع موحد يمتلك استراتيجية وتربطه أهداف مشتركة يلتف حولها.