هاشم صالح
بداية اسمحوا لي أنْ أطرح هذا السؤال: لماذا أنا معجب بشخص مثل فولتير؟ ليس فقط لأن نيتشه أهداه أحد كتبه الشهيرة قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية.
المقصود أنه حررها من الدوغمائيات الدينية المتحجرة. وإنما لأنه نهض ضد التجاوزات المجحفة ودافع عن الأقلية البروتستانتية المضطهدة والمكفرة من قبل طائفته الجبارة بالذات. ومعلوم أنه كان ينتمي إلى طائفة الأغلبية الكاثوليكية المهيمنة تاريخياً على فرنسا. ومع ذلك فقد تحداها من أجل الحق والحقيقة، من أجل العدالة والحرية. بل وغامر بنفسه إذ تحداها لأنها كانت قادرة على سحق أي مثقف ينتقدها أو يقف في وجهها. وقد عانى بسبب ذلك ما عاناه. ولم يكن أي شيء يجبره على ذلك والتضحية بطمأنينته الشخصية. ولكنها معركة الفكر، قضية الفكر، شرف الفكر.
ثم تحوّلت معاركه ومعارك سواه إلى منجزات راسخة في الدول المتقدمة. فمن في أوروبا المعاصرة يريد التراجع عن حرية الضمير والمعتقد مثلاً؟ من الذي يريد العودة إلى العصر الأصولي والمجازر الطائفية بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين؟ من الذي يريد العودة إلى فتاوى التكفير اللاهوتية والذبح على الهوية؟ من الذي يريد العودة إلى محاكم التفتيش والظلاميات الدينية؟ كل هذا حررهم التنوير منه وقضى عليه إلى الأبد. أحيل بهذا الصدد إلى كتاب «فلسفة الأنوار» لأرنست كاسيرر الذي أصبح كلاسيكياً الآن ومرجعاً لكل الباحثين.
ولكن قبل فرنسا كان التنوير إنكليزياً. فلولا جون لوك وإسحاق نيوتن ما كان فولتير وديدرو وجان جاك روسو وسواهم. والواقع أن فولتير يعترف بذلك. ولا أحد يستطيع أنْ ينكر إنجازات شافتسبري، ودافيد هيوم، وإدموند بيرك، وآدم سميث، وغيرهم كثيرون. وبالتالي فالاستنارة كانت أولاً إنجليزية قبل أنْ تصبح فرنسية وألمانية وأوروبية عموماً. وأكبر دليل على ذلك هو أن الثورة الإنجليزية سبقت الثورة الفرنسية بقرن من الزمان (1688-1789). وبالتالي فالشعب الإنجليزي سبق الشعب الفرنسي إلى التحرر السياسي ونيل حقوقه بعد القضاء على الاستبداد والطائفية والتعصب الأعمى وحكم التعسف والاعتباط.
ولهذا السبب نقول إن إنجلترا هي أعرق ديمقراطية في العالم. نقول ذلك وبخاصة أن الثورة الإنجليزية تمت بشكل سلمي ولم تكن دموية كالثورة الفرنسية. وقد أمَّنت للشعب حقوقه الفردية والدينية والسياسية وكذلك حق الملكية والتنقل والتعبير والنشر والصحافة.. إلخ.. ثم جاءت الثورة الأميركية بعد الثورة الإنجليزية عام 1776. وقد استلهمت مبادئ عصر التنوير وفصلت بين الكنيسة والدولة وأسست المواطنة على أسس حديثة لا علاقة لها بالمذهب أو الطائفة، وطبقت المبدأ الشهير القائل: الدين لله والوطن للجميع. ولهذا السبب ازدهرت بلدان الغرب وتطوّرت بعد أنْ قضت على كابوس الطائفية الذي كان سبب الحروب الأهلية والمجازر الدموية. ثم جاءت بعد الثورتين الإنجليزية والأميركية الثورة الفرنسية عام 1789، وأصبحت الباراديم الأعلى أو النموذج الأعظم لكل الثورات. ومشت على منوالهما بل وتجاوزتهما وأعطت للشعب حقوقه في التعبير عن نفسه، واختيار حكامه بعد أنْ ألغت النظام الاقطاعي الطائفي القديم. وهنا نطرح هذا السؤال: ولكن ما هي المبادئ التي قامت عليها كل هذه الثورات التحررية أو التحريرية التي أسست الحداثة السياسية؟ إنها مبادئ فلسفة التنوير بالذات، وهي الفلسفة التي بلورها مفكرو إنجلترا وفرنسا وأميركا منذ القرن السابع عشر وحتى القرن الثامن عشر وما بعده.
ومن أوائل فلاسفة التنوير في فرنسا المفكر الفرنسي بيير بايل أستاذ فولتير والجميع. فكلهم استفادوا منه وحذوا حذوه. ومعلوم أنه نشر كتابه الشهير المدعو «بالقاموس التاريخي والنقدي » عام 1697، أي في أواخر القرن السابع عشر. وفيه انتقد كل العقائد الأصولية المسيحية القديمة وتنبأ بأن العصر المقبل، أي القرن الثامن عشر، سيكون مستنيراً حقاً. فهنيئاً للأجيال القادمة التي ستعيش فيه وفيما بعده. ومعلوم أن بيير بايل هذا عانى من الاضطهاد الطائفي معاناة هائلة لأنه أقلوي ينتمي إلى الطائفة البروتستانتية التي كانت محتقرة جداً في فرنسا من قبل الأغلبية الكاثوليكية البابوية. وقد حاولوا إبادتها عن طريق فتوى لاهوتية شهيرة تكفرها وتستبيح دماءها. وقد أطلق هذه الفتوى أكبر أصولي كاثوليكي فرنسي في القرن السابع عشر: بوسويه . وهو لا يقل خطورة عن ابن تيمية في الجهة الإسلامية. وكان خطيباً مصقعاً يُرعب بصوته الجهوري حتى لويس الرابع عشر! ولذلك حمل بيير بايل حملة شعواء على بوسويه هذا وعلى كل الفكر الطائفي الذي كان مهيمناً على عصره كحقيقة مطلقة مثلما هو مهيمن علينا الآن في العالم العربي والإسلامي كله إلا بعض بقع الضوء هنا أو هناك. وقد صدَّقت الأيام نبوءته، فالقرن الثامن عشر كان عصر التنوير بامتياز. ومصطلح التنوير يدل على تلك الحركة الفكرية النقدية التي ازدهرت إبان القرن الثامن عشر وأدت إلى تفتح الأفكار الفلسفية الجديدة وانتشارها وحلولها محل الأفكار اللاهوتية المسيحية القديمة. وبالتالي فإن مشروع التنوير العلمي والفلسفي هو الذي أدى إلى صنع كل هذه الحضارة الجبارة التي نشهدها الآن في أوروبا وأميركا الشمالية.
وأهم ميزة لعصر التنوير هي تمجيده للعقل وانتقاده للعقائد التراثية القديمة. ففي السابق، أي في العصور الوسطى، كان رجل الدين هو الذي يمثل قمة المعرفة والفكر. كان يمثل الهيبة العليا التي تعلو ولا يُعلى عليها. من يستطيع أنْ يناقش البابا أو حتى أصغر كاهن مسيحي؟ ولم يكن يستطيع أحد أنْ ينقده أو يخالفه لأنه يتحدث باسم الهيبة اللاهوتية العليا والمقدسة للدين المسيحي. وهكذا شاعت الخرافات والعقليات التواكلية: أي عقلية المعجزات والخرافات والحكايات الخارقة للعادة. كل ذلك شاع وانتشر بين الناس. ولذلك كانت أوروبا جاهلة، أصولية، فقيرة، متخلفة. وقد ظلت كذلك ما دام الكهنة يسيطرون عليها.
أما بدءاً من عصر التنوير فلم يعد رجل الدين هو الذي يمثل الهيبة العليا للمشروعية المعرفية وإنما أصبح الفيلسوف أو العالم الطبيعي هو الذي يجسدها. وعلى هذا النحو خرجت أوروبا من ظلام العصور الوسطى ودخلت في أنوار العصور الحديثة. ولذلك سمّوا ذلك العصر بعصر التنوير. فمتى سيطل علينا عصر الأنوار العربية؟ وهل سيحل المثقفون العرب المتنورون محل شيوخ الفضائيات يوماً ما؟ هذا الكلام لا يعني إطلاقاً هجوماً مجانياً على رجال الدين أو دعوة للخروج من الدين. فالدين هو قمة القمم وغاية الغايات. ولكنه يعني الانتقال من الفهم الظلامي الطائفي القديم للدين إلى الفهم الجديد المستنير بنور العقل وضوء الفلسفة. هل هذا ممنوع أيضاً؟
على أي حال هذا ما حصل في أوروبا. ولهذا السبب انطلق وسيطرت على العالم بعد أنْ تحررت من قيودها التقليدية وأصفادها اللاهوتية. وعلى هذا النحو أصبح العقل سيد الموقف. فقد راح يتفحص كل العقائد ويغربلها: فما تماشى مع العقلانية المنطقية أبقاه، وما لم يتماشَ رفضه وأزاله من الوجود. وعندئذ انتشرت الأفكار العلمية والفلسفية في أوساط الشعوب الأوروبية وأدت في نهاية المطاف إلى قلب نظام القداسة وإحلال نظام الحداثة محله. ورافق كل ذلك بالطبع حلول العقلية التجريبية العلمية المحسوسة محل العقلية الغيبية أو الميتافيزيقية البعيدة عن الواقع. كل هذا ينبغي أنْ نأخذه بعين الاعتبار إذا ما أردنا أنْ نفهم سبب تفوق أوروبا على جميع شعوب العالم طيلة القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية. ولكن المستقبل هو للشعوب التي لم تدخل التاريخ بعد. وقد أصبحت تدق على أبوابه بكل قوة من الصين إلى الهند إلى العالم العربي. وأصبحت هيمنة الغرب المطلقة على وشك الأفول!
لكن قبل اختتام هذا الحديث لا بد من المصارحة حتى ولو كانت مرة وجارحة. لن يدخل العرب التاريخ ولا المسلمون ككل ما لم تتغير عقليتهم القديمة وتتفكك يقينياتهم التراثية التي أصبحت عالة عليهم وعلى العصر. وهي عبارة عن يقينيات لاهوتية جبارة راسخة في العقلية الجماعية رسوخ الجبال. وهذه عملية عويصة وشائكة سوف تكلف ثمناً غالياً. لهذا السبب يتردد المثقفون العرب المستنيرون في القيام بها ويخشونها كل الخشية. فهي ستؤدي إلى تمزق كبير وإلى نزيف دموي حاد. لأفصح أكثر وأقول: إننا مطالبون الآن بغربلة التراث كله من أوله إلى آخره غربلة صارمة لا هوادة فيها. فما تماشى منه مع كرامة الإنسان وقيم الحداثة أبقينا عليه بل ورفعناه إلى أعلى مقام. وما تناقض معهما من يقينيات عدوانية وفتاوى تكفيرية طرحناه غير مأسوف عليه. وعلى الرغم من أن هذه اليقينيات التراثية عزيزة على قلوبنا وغالية علينا لأننا تربينا عليها وتشربناها مع حليب الطفولة فإننا مضطرون للانفصال عنها أو التخلص منها. من هنا صعوبة العملية وعسرها بل وخطورتها على توازن النفسية الجماعية ككل. لذلك أتوقع أنْ تكون معركة التنوير العربي القادمة ضارية بل وأكثر من ضارية. وذلك لأن المشكلة أصبحت منك وفيك ولم تعد مع عدو خارجي. ينبغي أنْ تحارب نفسك، أنْ تصارع نفسك، أنْ تنتصر على نفسك. هنا يكمن لب المسألة وجوهرها. وهذه أصعب أنواع المعارك وأشدها قساوة على النفس. ولكن هذه المعركة الداخلية أصبحت إجبارية بعد أنْ تضخمت الحركات الظلامية مؤخراً بل واستفحلت إلى درجة مخيفة. انظر تصريحاتهم النارية اليومية التي أدت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي لبلدان المشرق العربي خصوصاً. ولا أحد يعرف متى يلتئم مرة أخرى: ربما بعد خمسين سنة قادمة؟ لقد قسموا البلاد حتى قبل أنْ تُقسم ودكّوا إسفيناً عميقاً في صميم وحدتها الوطنية. كنا نحلم بثورات تنويرية جديدة تقذف بنا إلى الأمام فإذا بنا نُبتلى «بثورات» تكفيرية ظلامية تعيدك قروناً إلى الوراء! لقد أعادوا البلاد إلى العصر الحجري وحولوها إلى خرائب وأنقاض. لقد جعلوا التعايش بين مكونات الشعب الواحد جحيماً لا يطاق. كيف يمكن أنْ تتعايش مع شخص يعتقد في قرارة نفسه أنك كافر يحل له ذبحك بل ويتوجب عليه ذبحك تقرباً إلى الله تعالى؟ ثم يطالبونك بعد كل ذلك بأن تصفق له! أين نحن؟ إنهم يكفرون شرائح كبيرة من المجتمع على أسس طائفية مذهبية ويدعون علناً إلى ذبحها شرعاً وإبادتها طبقاً لفتاوى قديمة، صدِئة، علاها الغبار. ولكنها لا تزال سارية المفعول حتى الآن بسبب الجهل والتخلّف وعدم تعرض التراث الإسلامي لأي عملية نقدية راديكالية كما حصل للتراث المسيحي في أوروبا بدءاً من عصر الأنوار، بل وبدءاً من بيير بايل وسبينوزا. إنها تشكل يقينيات لاهوتية مطلقة تهيمن على وعي الجموع. كما أنها تهيمن على كل المدارس والجامعات وليس فقط على كليات الشريعة والمعاهد الدينية التقليدية. بل وتهيمن حتى على عقلية ما يدعى خطأ: بالمثقفين العرب. فالكثيرون منهم متواطئون سراً أو علانية مع جماعات الإخوان المسلمين وكل ما نتج عنهم من «تحف» كداعش والنصرة وسواهما. يكفي أنْ نلقي نظرة سريعة على المقالات التي تنشرها الصحافة العربية يومياً لكي نتأكد من ذلك. ترى الواحد منهم يجد صعوبة بالغة في ذم الحركات الإخونجية حتى ولو من رؤوس الشفاه. ثم بعد كل ذلك يتشدقون بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان! أين هو فولتير العربي؟ أو جان جاك روسو العربي؟ أو سبينوزا العربي؟ أو كانط العربي؟ أو غوته العربي؟ أو كاسيرير العربي؟ أو بول ريكور العربي؟ هذا ناهيك عن نيتشه العربي! الخ.. من هنا خطورة المسألة ووعورتها. ولكن لحسن الحظ فهناك استثناءات عديدة مضيئة هنا أو هناك. هناك كواكب مشعة من مثقفين ومثقفات نادرات. وهي تتزايد أكثر فأكثر وعليها تعلق الآمال. على أي حال فإن معركة التنوير العربي القادمة سوف تشتبك بالضبط مع هذه اليقينيات التراثية والفتاوى اللاهوتية التي تشكل حقائق معصومة مطلقة تهيمن على عقلية الملايين. لقد كرست لهذه المعركة كل حياتي وجهودي على مدار ثلاثين سنة متواصلة. إنها أعز علي من روحي. ودمي في سبيلها رخيص.
إسلام الأنوار آتٍ لا ريب فيه
فرنسا هي بلد الأنوار الفلسفية بامتياز. فمنها أشرقت في القرن الثامن عشر وانتشرت لكي تعم كل أنحاء أوروبا. ليس غريباً إذن أنْ يظهر فيها التأويل التنويري الجديد لتراثنا العربي الإسلامي العظيم. وهو الذي سيحل محل التأويل الأصولي القديم الذي طغى علينا طيلة الأربعين سنة الماضية مع صعود موجة الإسلام السياسي الهادرة. بل وحتى منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا عام 1928. نقول ذلك وبخاصة إن الإسلام أصبح يشكّل الدين الثاني في بلاد فولتير بعد المسيحية في مذهبها الكاثوليكي البابوي. فعدد المسلمين لا يقل عن خمسة ملايين وربما ستة. وبالتالي فهم خمسة أضعاف عدد اليهود أو البروتستانتيين. وبما أنهم على احتكاك يومي بالحداثة الفرنسية، فليس من المستغرب أنْ ينبثق من داخلهم إسلام الأنوار. وهو ذاته إسلام العصر الذهبي الذي أشعّ على العالم يوماً ما من بغداد أو قرطبة. ولكن مضافاً إليه هذه المرة كل الفتوحات العلمية والفلسفية للحداثة الأوروبية منذ عصر النهضة وحتى اليوم. وبالتالي فسوف يكون نوراً على نور. هذا هو إسلام المستقبل. إنه على الأبواب. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. كان الأب المسيحي كريستيان ديلورم قد نشر كتاباً جميلاً بعنوان: الإسلام الذي أحب، الإسلام الذي يقلقني. وفيه يعبر عن موقفه تجاه نوعين من فهم الإسلام وتفسيره: النوع الأول سمح متسامح تعبر عنه الآية الكريمة لا إكراه في الدين. وهو الذي يحبه. والنوع الثاني خاطئ متطرّف بنى وجوده على الإكراه في الدين ومخالفة القرآن الكريم وتكفير الآخرين والدعوة إلى استئصالهم. وهو الذي يقلقه. تقول السيدة فيرجيني لاروس رئيسة تحرير مجلة عالم الأديان الفرنسية ما معناه: لماذا ننكر الحقيقة نحن الفرنسيين؟ نعم يوجد تأويل متشدد للإسلام وهو يقلقنا ويخيفنا. إنه يشجع على العنف والتعصب والظلامية الفكرية. إنه يكفّرنا كفرنسيين سواء أكنا علمانيين أم مسيحيين أم ملاحدة لافرق. إنه يحرمنا من نعمة الله غصباً عنا. وليس كرهاً في الإسلام ولا إسلاموفوبيا إذ نقول ذلك. هذه هي الحقيقة أو قل هذه هي مشاعر أغلبية الفرنسيين والغربيين عموماً. ولكن يوجد أيضاً تأويل آخر للإسلام: إنه إسلام التسامح واحترام كرامة الآخر، إنه إسلام الانفتاح والحداثة، إنه إسلام الرحمة والمغفرة. وهو قرآني بامتياز. صحيح أنه توجد آيات أخرى صعبة وقاسية بل وعنيفة. ولكن أليست موجودة بكثرة في التوراة؟. وبالتالي فلا ينبغي أنْ ننزعها من سياقها التاريخي ونعممها على كل تاريخ البشرية. فلها ظروفها وحيثياتها إبان النزول. ثم بشكل أخص لا ينبغي علينا أنْ نطمس كل آيات التسامح كما يفعل المتشددون. بأي حق يفعلون ذلك؟ أليست موجودة في القرآن، وبكثرة؟. وتعترف الباحثة الفرنسية بأن معظم المسلمين – أي الأغلبية الصامتة – هم أشخاص طبيعيون مثلنا. إنهم يشاطروننا نفس المطامح والآمال في تحسين أمور معيشتهم وتربية أطفالهم وإيصالهم إلى أفضل مستوى تعليمي وثقافي. إنهم يحبون أطفالهم مثلنا. إنهم يصبون إلى النور والسعادة والنجاح في الحياة مثلنا. وبالتالي كفانا اشتباهاً بالمسلمين وتخويفاً منهم حتى لكأنهم خلقوا من غير طينة البشر! ينبغي الاعتراف بأن الكثيرين في فرنسا لا ينظرون إلى الإسلام إلا من خلال المتطرّفين المسعورين الذين يطلقون التصريحات النارية التكفيرية ويرعبون البشر. ولكن هؤلاء أقلية لدى المسلمين وليسوا أكثرية على عكس ما يزعم اليمين المتطرّف.
ونلاحظ أن الفيلسوف الفرنسي كريستيان جامبيه يشاطرها هذا الرأي. بالطبع فكلامه يتخذ وزناً أكبر نظراً لتبحره في تراث الإسلام ومكانته العلمية والأكاديمية العالية. فقد كرّس حياته كلها لدراسة التراث العربي والفلسفة الإسلامية. وهو من مواليد الجزائر عام 1949 عندما كانت لا تزال تحت الحكم الفرنسي. ثم انتخب مؤخراً بروفيسوراً لكي يحتل كرسي الفلسفة الإسلامية في الجامعة الفرنسية. وقد كرس حياته لاستكشاف آثار فلاسفة الإغريق لدى فلاسفة العرب والمسلمين. ولكنه على عكس رينان والعرقية المركزية الأوروبية لا يعتبر فلاسفة العرب مجرد نقلة أو مترجمين للفكر الإغريقي، فكر أفلاطون وأرسطو على وجه الخصوص. وإنما يعترف بالإبداع الغني الذي أضافه فلاسفة الإسلام إلى الفلسفة اليونانية. من أهم ماصدر له مؤخراً كتاب لقي ترحيب الأوساط الثقافية الفرنسية بعنوان: ما هي الفلسفة الإسلامية ؟ إنه كتاب أكاديمي مرجعي بالمعنى الحرفي للكلمة، كتاب كلاسيكي أو سيصبح كلاسيكياً بمرور الأزمان. يقول لنا كريستيان جامبيه فيه ما معناه: لا ينبغي أنْ نهتم فقط بالفلاسفة الكبار الذين مشوا على خط الإغريق كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة الخ.. وإنما ينبغي أنْ نهتم أيضاً بما يدعى في المصطلح العربي بالحكماء. وعندئذ يمكن أنْ نأخذ فكرة شمولية متكاملة عن الفلسفة الإسلامية. وبالنسبة للحكماء المسلمين فلا توجد قطيعة بين العقل/والوحي كما هو حاصل في الغرب حالياً. هؤلاء المفكرون الإسلاميون لا يقطعون أبداً مع الأفق الديني. يقول بالحرف الواحد: هؤلاء الحكماء ما كانوا فلاسفة رغماً عن الإسلام، وإنما انطلاقاً من الإسلام، مع الإسلام، وبالإسلام.
يعلق روجيه بول دروا المسؤول عن الصفحة الفلسفية في جريدة لوموند الفرنسية قائلاً: هذا الكتاب سوف يزعج الغرب أو قل القطاعات اليمينية منه. لماذا؟ لأنه يقدم صورة أخرى عن الإسلام، لأنه يكشف لنا عن كنوز فكرية مجهولة في الإسلام. إنه يكشف عن كنوز روحانية أيضاً وعن اشتقاق فلسفي وإبداع ميتافيزيقي قل نظيره. هذا في حين أن اليمين الغربي كان يتمنى لو أن الإسلام يبقى حكراً على ابن لادن وبقية الجهلة من المتطرّفين الظلاميين لكي تظل صورته مشوهة. فبعضهم لا يريد أنْ تكون للإسلام أي علاقة بالفكر أو العقل والفلسفة. أخيراً يرى الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل، وهو من فلاسفة فرنسا المعدودين حالياً، إنه لزم على الكنيسة الكاثوليكية البابوية الرومانية مدة ألفي سنة تقريباً لكي تقبل بحرية الضمير والمعتقد، وبالديمقراطية والدولة المدنية. لقد قاومت روح الأزمنة الحديثة بكل ضراوة قبل أنْ تستسلم لها مؤخراً مع الفاتيكان الثاني. فلماذا لا يحصل ذات التطور في الإسلام نفسه؟ من قال لكم إن الإسلام يستعصي على التقدم والشفافية والديمقراطية والحرية المسؤولة وحقوق الإنسان؟ هذه خرافة يروجها فقط منظرو صراع الحضارات. الإسلام سائر على طريق التقدم والاستنارة لا محالة. والعديد من المثقفين المسلمين يواجهون بكل شجاعة قوى الأصولية الظلامية التي تريد إسكاتهم وإخراس أصواتهم. ولكن حركة التاريخ مع المجددين سوف تمشي إلى مداها الأخير..