لطفية الدليمي
تكمن دافعية الكتابة في أمرين إثنين كما أرى : الأول كونها فعالية مميزة للكائنات البشرية . تميل كل البشر لترك بصماتهم التي تمثل ما تحصّلوه من خبرات في هذا العالم لتمريرها لنظرائهم في اللحظة الراهنة أو في المستقبل .
ليست هذه الرغبة الملحّة في تسجيل الرؤى والخبرات الفردية محض رغبة مجرّدة في التعبير عن الذات والإفصاح عن مكنوناتها فحسب بقدر ماهي شكل من أشكال مقارعة عوامل الفناء البيولوجي الحتمي ومقاربة الخلود ولو بأشكال رمزية . قد لايجتهد معظم البشر في السعي الحثيث لحيازة أدوات وتقنيات الكتابة القادرة على تحريك كوامن التفكّر والنظر في المعضلات الوجودية والفلسفية الكبرى والتي يمكن حصرها في الأسئلة التأصيلية الثلاثة حول الكون والحياة والوعي ؛ لكنهم في أقلّ تقدير يمتلكون الوسيط اللغوي الذي يمكّنهم من التعبير عن ذواتهم ورؤاهم بطريقة شفاهية . هناك البعض ممّن لايستطيب البقاء في إطار ( الفضاء الشفاهي ) ويتجاوزه نحو الإجتهاد الصبور لامتلاك وسائل الكتابة وتقنياتها ، ولايطيقون الإبتعاد عن أجواء الكتابة اليومية التي تستحيل لديهم نمطاً من الطقوس المرتبطة بفعاليات تبعث على الإسترخاء العقلي وإدامة شعلة النشاط الفكري في كافة المناشط المعرفية . أحسبُني – بتواضع – فرداً في هذه الطائفة من البشر .
الأمر الثاني يتمحور حول حقيقة كون الكتابة فعالية مدفوعة بدوافع ميتافيزيقية ، وهي بهذا التوصيف أقرب لأن تكون خصيصة أخلاقية . دعوني أوضح هذا الأمر الإشكالي : متى يكتب الكاتب ؟ هل ينهض صباحاً ويقول لن أكتب اليوم ، أو سأكتب مائة كلمة فحسب ؟ لاتحصل الأمور على هذه الشاكلة . الكتابة فعالية تلقائية بمعنى أن الكاتب لايسائل نفسه كثيراً عن دوافعه للكتابة ؛ إنه يشرع بالكتابة بصرف النظر عن حقيقة المتغيرات الفيزيائية المحيطة به تماماً مثلما أنّ الشجرة لاتسائل نفسها هل تثمر أم لا . هي تثمر وحسب . يرى الكاتب أن فعالية الكتابة تنطوي على قيمة مشرّفة لوجوده الانساني مثل بقية الخصائص الأخلاقية المعروفة المتفق عليها بين البشر ، وهذه القيمة هي التي تمنح الكاتب الوقود اللازم لإدامة نشاطه العقلي وفاعلياته التخييلية .
تنطوي الفاعلية الكتابية على خصيصة مميزة : كلما توغّل الكاتب في أدغال الكتابة تزايدت مناسيب نشوته ومثُلت أمامه تساؤلات جديدة تمنحه قدراً غير محدود من عوامل التحفيز الذاتي لزيادة مقادير المغامرة والتجواب في عالم الكتابة . هذه الحقيقة التي يمكن توصيفها بمقاييس التغذية الاسترجاعية الإيجابية Positive Feedback المميزة للنظم الديناميكية المُعقدة ( والكائن البشري منها بالتأكيد ) هي إحدى مواصفات الكتابة الجيدة التي تسعى للكشف والمساءلة والتحفيز ، وربما تكون العبارة الشكسبيرية القائلة " لقد مضيتُ بعيداً في الجريمة بحيث بات التقدمُ فيها أسهل من التراجع عنها " هي أفضل وصف لما ينتابُ الكاتب وهو يمضي في تعزيز استكشافاته الكتابية .
الخصيصة الميتافيزيقية التي تميّز عقل الروائي هي فضيلة كبرى وليست مثلبة ، وحتى العلماء الكبار ( الفيزيائيون بخاصة ) هم ميتافيزيقيون عظام ، وغالباً مايعبّرون عن ميولهم الميتافيزيقية هذه في سياق سيرهم الذاتية المنشورة . الميتافيزيقا بهذا المعنى هي تثوير لنطاق الرؤيا وتفجير للممكنات البشرية التي ماكانت متاحة لولا هذا الحس الميتافيزيقي الجميل المتعالي على الوقائع المادية المشخّصة ، وبهذا المعنى يكون التخييل الروائي صفة جوهرية للخصيصة الميتافيزيقية الدافعة لتوسيع نطاقات التخييل وتلوينها بمذاقات تساعده وتساعد القارئ على الإسترخاء واجتناء أكبر قدر من المتعة الفكرية والحسية .