طالب عبد العزيز
يا لك من مجنون، ها قد انفقت ستين عاماً ونيّف من عمرك، في البلاد التي شُغلت برؤيتها أجمل. ابتدات بالشعر، في ظنٍّ منك بانه سيكون خلاصك الى الجمال والعالم الرحب، ولم تنته مقارعا النظام البعثي،
يوم انتظمت في حزب سياسي يساري، ذاك، الذي قادك الى المطاردة والتضييق في العيش، والهروب، والمبيت في بيوت الأصدقاء، وها قد انفقت السنوات قهراً واضطرابا وتزعيجاً للعائلة، ماذا جنيت من ذلك كله؟ شابٌّ ببندقية صدئة، لا يتجاوز عمره ربع عمرك، يرتدي ثياباً سوداً، وبلحية متطرفة يجورُ عليك، ويقذف بالمرحاض بكل ماضيك، يستبيح شِعرك وكتبك، وما قرأت، وما كتبت، وما جنيت من الأوجاع، يذهب بكل ما بين يديك، مما تسميه نضالاً وثقافة الى حظيرة أفكاره، فيخترقك برصاصة، تعبر حاجز بيتك، وتستقر في الزاوية المثلى حيث كنت تجلس، لكانك ما قارعت دكتاتوراً، ولم تقبع في سجن مظلم ذات يوم، ولم تستفردك زنزانة في دائرة للأمن العام، بل، ولم تقف مرعوباً قبالة ضابط يتحكم بمصيرك في الشعبة الخامسة، عن أي هراء تتحدث؟ عن أي خيبة يتحدث هؤلاء؟
وهِبْ إنك كنت نادماً على انتماء قديم، فقد ذهبت الأشياء الى مهاويها، وما أنت ممن يسره ما هو كائن اليوم، ولن تكون بطلاً في ظن البعض، فالبطولة حماقة في بعض ما تضمرهُ التفاسير.ابحث عن رأيٍّ يقنعك بانَّ ما يحدث في البلاد اليوم ليس بخيال أبداً، قل لي بأنَّ خلف الأجمة ما لا تبصره في الشاشات. لن اتحدث عن الاقتصاد وما حدث، ولن اتحدث في الثقافة وما صارت إليه، وعن الناس وقد تغوّل بعضُهم على بعض، وما أنا بصاحب مصرف خاسر، كي القي باللائمة على ما يحدث في سوق العملات، وبيع الدولار، لكني، إبن قرية كانت وادعة ذات يوم، فخرّبتها الحكومة، لذا، فأنا أبحثُ عمَّن يعيد لي النخل والظلال والانهار لا أكثر، ابحثُ عمّن يعيد تسمية القرى لي، فيقول ميتان، السراجي، عويسيان، كوت الضاحي، كوت الشافي، الرختوان، عبد الليان، محولة الزهير، فيّة إبن نعمة، قنطرة حرب، طريق الچلبي، مهيجران، الرومية، يوسفان، حمدان، واذا اثقلتكم الواواتُ والنونات ساتوقف عند باب سليمان. اعيدوا لي المجد الذي كان يوما (أبو الخصيب) أعيدوا الثراء الذي كان يوما شط العرب.
يحاول مصورو الفضائيات لملمة حلقة تلفزيونية عن الحياة في القرية هنا، حيث لا حياة بمعناها الوقائعي، فقد انتفى وجود، واستحدث الغرباء مكاناً آخرَ، لا شجر ولا ظلال ولا أنهار فيه، لكنهم(المصورين) وقد عزَّ عليهم معاينة الواقع الذي كان ماثلاً، استعانوا بك لتحدثهم عن الماضي، فتروح، تعيد ترتيب المشهد، تغرس نخلة افتراضية هنا، وتجري نهراً، وتبتكر ظلالاً... أيُّ وجع هذا؟ لماذا شهدتَ الفردوس واحتفظت بصوره؟ كان عليك أن لا تشهد ذلك، كان عليك أن تهجره وهو في ذروة قيامته، وأن تغيب عنه الى الأبد في أوصال وأشلاء الدنيا.
في ممارسة قبيحة جداً، تغلقُ شرطةُ مخافر الحدود الطرقَ الترابية، التي بقرى الفاو والسيبة وسيحان، فتمنع الصيادين (الحداكة)من الوصول الى شط العرب. تقول بأنها تملك الأسباب في ذلك، والحداك غرام البصريين، وهو فسحة للترويح عندهم، والتخلص من ضيق المدينة، لكنَّ الشرطة تطاردهم هناك، ومثلما تضيّق البلدية والعشوائيات على أقرانهم في أبي الخصيب والتنومة والصالحية وكردلان راحت تضيق عليهم المممرات الترابية فتقطعها.
تتفنن حكومات العالم المتمدن في إنشاء ما يدخل السرور على انفس مواطنيها، إلا في البصرة والجنوب العراقي المبتلى بأحزاب الدين الإسلامي، فكلهم يعملون على جعل الحياة نكداً. هل يكون المحافظ أسعد العيداني بحاجة الى التنبيه؟ أيرى في تسوية ساحل على شط العرب، وتعميق مسلكه ليكون لصيادي السمك نصيب من السرور في مدينتهم الخربة هذه؟ ثم، أيلقى ما تكتبه يا طالب عبد العزيز أذاناً صاغية من محافظ، ومن حكومة لا يعنيها من أمر مواطنيها شيئاً ؟