TOP

جريدة المدى > ملحق ذاكرة عراقية > أوراق من ذاكرتي ..كيف كانت تعمل رئاسة الوزراء في المملكة العراقية؟ ..

أوراق من ذاكرتي ..كيف كانت تعمل رئاسة الوزراء في المملكة العراقية؟ ..

نشر في: 16 مايو, 2010: 04:24 م

د. فخري شهاب دبلوماسي سابق ومؤرخفي مطلع عام 1958 عينت مديرا عاما لدائرة جديدة أحدثت في مقر مجلس الوزراء العراقي سميت بدائرة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وبعد شهرين أو ثلاثة أشهر استقالت الوزارة التي عينت في عهدها (وكان يرأسها رجل كريم وسياسي محنك هو المرحوم علي جودت الأيوبي،
أحد افراد الرعيل الهاشمي الذي قاد الثورة العربية ابان الحرب العالمية الاولى)، فخلفه سياسي أصغر سنا، كان هو ايضا لين العريكة، طيب القلب، وعلى خلق عظيم، هو المرحوم عبد الوهاب مرجان، وكانت تلك وزارته الأولى. كما عيّن بعد نحو شهر من تعييني في منصبي الجديد الدكتور عدنان الباجه جي مديرا عاما لدائرة الشؤون السياسية.وقد كنت عرفت السيد عبدالوهاب مرجان قبل ذهابي الى اكسفورد وفي ظروف لا تنسى، ذلك أني عرفته يوم كنا، نحن الاثنين، محاميين اتفق أن ترافعنا في محكمة الحلة البدائية، ويظهر أنه كان قد بدر منه في خلال المرافعة ما استفزني، فأجبته بخشونة أذهلته.ويخجلني اليوم أن أتذكرها، ومع أني كسبت القضية التي جمعتنا، الا أن سلوكي تجاه زميلي كان لا يغتفر! rnفي مكتب رئيس الوزراء وافترقنا بعد هذا فلم نجتمع حتى جمعتنا ظروف العمل في مقر مجلس الوزراء العراقي ببغداد: هو رئيس للوزراء وأنا موظف مدني في مكتبه. وكانت قد جرت العادة أن يخف موظفو المجلس، عند تغيير الوزارات، الى تهنئة الرئيس الجديد بمنصبه، وهذا ما فعل زملائي في مكتب الرئاسة. أما أنا، وكانت العلاقة بيني وبين الرئيس الجديد على ما وصفت، فقد قررت ألا أفعل! وقد وصلت الى ذلك القرار لقناعتي بأن السيد عبدالوهاب، وقد سبق أن عرفني في حلبة أخرى، كان حتما سيحاول التخلص مني بنقلي الى منصب آخر خارج مقر المجلس، وانتظرت اسبوعا، فلم يتحرك ساكن، وقبعت في مكاني أترقب الأحداث.ولم يطل انتظاري، إذ سرعان ما رن جرس التلفون في مكتبي رنينا طويلا مزعجا، ليخبرني عامل التلفون (ولم يكن التلفون الاوتوماتيكي معروفا يومئذ) أن «فخامة الرئيس» يريد أن يكلمني. هذه هي اذاً اللحظة المنتظرة، قد أزفت، وأتى أخيرا ما كنت توقعت! فرددت على نداء «فخامة الرئيس»، وتوجهت توا الى مكتبه كما طلب.دخلت مكتب رئيسي الجديد، ففوجئت بقيامه لاستقبالي؛ ثم أشار لي بالجلوس، فاخترت كرسيا قريبا كان على يمين مكتبه، وجلست غير آبه بهذه الحفاوة الشكلية التي غمرني فخامته بها، فهي ولا شك، تقدمة لما سينكشف من نواياه! وبعد ترحيب مختصر، افتتح فخامته الحديث فقال: «أردت أن أبحث معك موضوعا مهما تطرقت اليه في الخطاب الوزاري، هل قرأته؟» ولا داعي للقول إن الجملة الاولى التي افتتح رئيسي بها حديثه كانت مباغتة لم أكن أتوقعها ولا كنت مهيأ لها، فأرتج علي وبدا علي ارتباك حاولت التغلب عليه، فقلت: «واي فقرة في الخطاب تعني، فخامة الرئيس؟» (وكان ذلك ردا أسعفتني البديهة به اذ لا داعي للقول إني ما كنت قرأت خطاب الاستيزار الذي جرى العرف الدستوري يومئذ بكل وزارة جديدة أن تعده لمجلس النواب فور تسلم الحكم)، قال فخامته شبه معتذر: «آسف، أقصد الفقرة التي ورد فيها ما قطعته هذه الحكومة على نفسها من تحقيق العدالة الاجتماعية للعراقيين»، ثم أردف يقول: «أعدْ قراءته رجاء، واكتب لي مذكرة شاملة تفصل الخطوات التي على الحكومة اتخاذها لانجاز ما وعدت به». ثم اختتم فخامته الاجتماع بقوله: «اتركوا أي شغل آخر أنتم عاكفون الآن عليه لانجاز هذا التقرير قبل نهاية الاسبوع إن أمكن» - وقال جملته الأخيرة بصوت اقرب للتضرع منه الى الأمر! فأكدت لي نبرة صوته وملامحه واستعماله صيغة الجمع في مخاطبتي، أنه كان جادا في طلبه، وأن مخاوفي كانت أوهاما لا مبرر لها في الحقيقة. واستأذنت بعد هذا وعدت الى مكتبي.rnسذاجة وجهلراودت ذهني أفكار شتى بعد ذلك اللقاء القصير الغريب: أذكر بوضوح اليوم منها عظيم ارتياحي لاحتفاظي بوظيفتي التي خشيت فقدانها، وأذكر منها ما بدا على رئيسي الجديد من جدية واستعجال لتحقيق مطلبه، وفكرة أخرى ما انفكت تلازمني حتى الان، وهي محاولتي اقناع نفسي بأن ما عشته خلال الدقائق الماضية، كان أمرا قد وقع فعلا، وليس حلما تراءى لي! فقد أذهلتني سذاجة رئيسي الجديد وعظيم جهله! أكان يحسب جادا أن ما كان موضع نقاش عقودا طوالا بين المفكرين والسياسيين وقادة الرأي العام، وما ناقشته الاحزاب المختلفة نقاشا مستفيضا في الغرب، سيلخص في مذكرة أحررها أنا خلال أيام قلائل؟ ثم عدت الى واقعي الذي كنت أعيش فيه: هذا سياسي جديد، يريد أن يبني كيانه السياسي، وقد اكتشف فكرة بناءة اكتسبت شعبية واسعة (في الغرب)، وخاصة بعد أن تبنتها الحكومة البريطانية في أخريات الحرب العالمية الثانية، وتبناها بحماس ووسعها ثم قننها وعمل بها حزب العمال، بعد فوزه بالانتخابات بعد الحرب، ثم عمت العالم المتحضر بأسره، فلمَ لا تطبق في العراق اذن؟والرد أنه لا مانع، بديهة، من اقتباسها والعمل بها، ويعلم الباري تعالى أن مجتمعنا أحوج ما يكون اليها، والبطالة بيننا منتشرة، والأمراض متفشية، والفقر مدقع، والامية شائعة! الا أن ما أذهلني وآلمني في

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

هل كانت ثورة 14 تموز في العراق حتمية؟

هل كانت ثورة 14 تموز في العراق حتمية؟

د. عبدالخالق حسين لو لم يتم اغتيال ثورة 14 تموز في الانقلاب الدموي يوم 8 شباط 1963، ولو سمح لها بمواصلة مسيرتها في تنفيذ برنامجها الإصلاحي في التنمية البشرية والاقتصادية، والسياسية والثقافية والعدالة الاجتماعية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram