د. نادية هناوي
تُمخيل ( رواية التاريخ) التاريخ وتؤرخن المخيال فتتلاشى الحدود وتزول الحواجز حتى لا مجال إلا للالتصاق والتساند.
وبتوغل السرد في التاريخ ينداح الإنسان في الزمان بوصفه الطرف الثالث الذي يجعل كتابة (رواية التاريخ) تنبع من داخلها حيث لا يتغالب المؤلف وقارئه على البنية النصية شداً وجذباً حسب؛ بل اللحظة شبه التاريخية للقصص هي التي تتبادل الأماكن مع اللحظة شبه القصصية للتاريخ أيضاً ـ كما يقول بول ريكور ـ من أجل إعادة تصوير الزمان، وقد استمدت مقومات التجاذب فيها من داخل أنماط حبكها.
وبسبب هذه التبادلية الزمانية تعامل هايدن وايت مع المدونة التاريخية بوصفها جنساً سردياً هو أما مأساة أو ملهاة أو رومانس أو سخرية، مضفياً الحيوية على هذه المدونة التي فيها يتم التعبير القصصي عن المادة التاريخية.
وما قطيعة التاريخ والقصص سوى توكيد للانقلاب على مستوى البنية العميقة للنص، فيتطابق إضفاء الصفة العينية مع ظاهرة الرؤية، ولا يقر ريكور بالتقاطع إلا لأجل التطابق؛ فالقول ( أتخيل ) لا يعني ( أتوهم تمثيلاً ) وإنما ( أتمثل إيهاماً ) لأن التفكير لا يترك التخييل يعمل لوحده بل يشترك معه في صنع التاريخ الجديد بانفصام عبارة ( كان يا ما كان) عن القول ( كأنما الماضي..) أو القول( تخيل كأن) لأن الشيء يصبح صورة لما هو متخيل. واستند ريكور في ذلك على طروحات هايدن وايت عن علم المجاز والوظيفة التمثيلية للخيال التاريخي، مقارباً المجاز بالتمثيل والمماثلة بالمطابقة، فحينما(نتصور أن..) يعني أن الماضي هو ما كان يمكنني أن أراه وما كان يمكنني أن أشهده لو كنت هناك تماماً كما أن الوجه الآخر للأشياء هو ما يمكنني أن أراه لو كنت أنظر إليها من الجانب الذي تنظر أنت إليها منه. وبهذه الطريقة يصير علم المجاز الوجه المخيالي للتمثيل.
وهذه المقاربة هي التي تريدها( رواية التاريخ) مؤدية وظيفتها التمثيلية من خلال جعل التخييل غاية في ذاته، به نردم التقاطع بين القصص والتاريخ معيدين تصوير الزمان، بعكس الوظيفة التصويرية للرواية التاريخية التي فيها التخييل أداة شعرية وواسطة استعارية تساهم في بلوغ الغاية التي هي التاريخ.
ومسألة استعادة تصوير الزمان جعلت ريكور يعيد فحص فلسفة هيغل الذي وجده( يحصر نفسه بالماضي مثل مؤرخ غير متفلسف) من باب ما سماه ( الإغراء الهيغلي) الذي فيه التاريخ تاريخ المؤرخ وليس تاريخ الفيلسوف. ولأن روح العالم يوصل إلى ما سماه ريكور ( مكر التاريخ ) كونه يجعل ما هو غير مقصود مضموماً في خطط روح العالم، استبدل ( روح العالم ) بـ( روح الشعب) حيث التاريخ السياسي مولود من روح شعب، وعندها لن يكون المكر في التاريخ نتاج اختلاف بين ماض ميت هو مقصد المؤرخ وماض حي هو مقصد الفيلسوف. وبغية ريكور من الوقوف إلى صف الشعب هي الحقيقة التي فيها السعادة التي يجدها عبارة عن صفحات بيضاء في التاريخ. أما الصفحات التي يخطها التاريخ ويسودها فلا تخدم إلا رجال التاريخ العظام الذوات الفاعلة في التاريخ كما يسميهم هيغل.
وفي (رواية التاريخ) تتحول هذه الصفحات البيضاء التي لم يخطها التاريخ الرسمي إلى سرود بأزمنة أو حقب جديدة هي عبارة عن تزمين فيتماثل السرد مع ما يسرده ويكون التاريخ والرواية وجهين لعملة واحدة. ولرواية التاريخ شكلان تمثيليان:
الأول/ التمثيل اللغوي الذي فيه مفردة التاريخ في ( الرواية التاريخية ) ترد بصيغة وصفية، بينما ترد المفردة في(رواية التاريخ) بصيغة المضاف والمضاف إليه. ومعلوم أن الإضافة تحافظ على صيرورة الوحدة والتلاحم، وكل ما يتصل بذلك من توالد مترادفات تصب في الاضافة نفسها لتكون مفردة (الرواية) متقدمة ومحددة بتواز مع مفردة (التاريخ) بينما تقتضي الصيغة الوصفية في الموصوف الرواية والصفة ( التاريخية) أن تكون الغلبة هنا للصفة لأنها هي البغية في حين تتبعها الرواية التي هي موصوفة بها وتابعة لمواصفاتها، وهذا بالضبط مقصد الرواية التاريخية التي قدمت التاريخ على الرواية وجعلت الأخيرة وسيلة للأول الذي هو البغية والمقصد والجوهر. ولأن الصفة تتبع الموصوف لذلك يكون التوالي والتتابع والاستلحاق مقتضيات بها ينحسر الاشتغال عند منطقة التخييل بينما يتوسع الاشتغال على منطقة الوقائع ويمتد بكثافة. وهو ما ترفضه أدبيات ما بعد الحداثة التي تناصر أي اشتغال يستبدل الاستلحاق والاستتباع بالتجريب واللانمطية في الاستغوار من خلال استلهام ممكنات الوعي التاريخي Historical Concusses وإلى أبعد الحدود. إن اسنادية الرواية إلى التاريخ بطريقة الإضافة الاسمية تماثل ما أراده هيغل حين وجه النشاط الفلسفي الذي كان معتمداً في زمانه آنذاك على البحث في تاريخ الفلسفةhistorical philosophy فقلب هذا الفيلسوف ذلك الاعتماد متعاطياً مفهوم فلسفة التاريخ history philosophy of وهنا يتوضح لنا الفارق الشاسع بين الصيغة الإسنادية مبتدأ وخبراً والصيغة الاتباعية صفة وموصوفاً.
إذا كنا قد عهدنا إلى الإسناد تحقيقاً للسردنة التاريخية؛ فإن ما ستفضي إليه اتباعية الصفة للموصوف هو سرد تاريخي. والأول أي ( السردنة التاريخية) هو مربط الفرس الذي به انشغل هايدن وايت لأكثر من خمسة عقود. وبحسب وايت تنزع سردنة التاريخ الادلجة من التفكير التاريخي استناداً إلى سياسات التأويل التاريخي من ناحية(الانضباط ونزع التسامي) متأثرا في ذلك بفلسفة ماكس فيبر، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن السرد عند هايدن وايت هو المهيمن في الخطاب الأسطوري والتخييلي على حد سواء، بدءاً من الناريم narreme التي هي أصغر وحدة سردية.
وتدلل الصيغة المعروفة في اصطلاح الرواية التاريخية على ثبوتية الفعل السردي مقابل امتدادية الفعل التاريخي بما يجعل السرد وسيلة تمثيل للحدث التاريخي الذي يظل هو الهدف والمبتغى، بينما تفكك(رواية التاريخ) هذه المواضعة وتعيد صياغتها في إطار تخييلي يرفع من فاعلية السرد محجماً أرشيفية المادة التاريخية بالتمثيل. ولقد حسم كروتشه الأمر حين قال:" حيث لا يوجد سرد لا يوجد تاريخ" ووصف كونديرا تعامله مع التاريخ بالقول:" سلوكي بإزاء التاريخ هو سلوك المخرج المسرحي الذي يتدبر أمر المشهد بعدد من الأشياء". وهذه الإعادة في بناء التاريخ بعد تفكيكه هي التي تعطي للتاريخ حيويته وتجعله متجدداً ومتماسكاً غير هش.
الثاني/ التمثيل الاصطلاحي لـ(رواية التاريخ) ليس مجرد تسمية فيها نضيف الرواية إلى التاريخ؛ بل اصطلاح استدلالي فيه تتم عملية مطابقة الواقع التاريخي بالتاريخ الواقعي من خلال تمثيل القول التاريخي تمثيلا يجعل القول الشعري مفسراً له حتى لا حدود للتصديق والتخييل معا. والأحداث كأقاويل تاريخية يتم تمثيلها بواحد من التمثيلات الآتية: التمثيل الشكلي والتمثيل العضوي والتمثيل الآلي والتمثيل السياقي(meta historical imagination in Nineteenth century ,Hayden white, Europe the johns Hopkins press. Baltimore and London 1973,p13 ) وبالشكل الذي يجعل الرواية كما يقول ستندال أصدق قولاً من التاريخ.
وبسبب هذا التمثيل لن يعود تعامل الروائي مع التاريخ كتعامل المؤرخ مع الوقائع كأن يكتب عن حقبة ويغفل متعمدا حقباً أخرى، ولا كتعامل الروائي في الرواية التاريخية وهو يراهن على تصوير الحدث وليس تمثيله؛ بل التاريخ في(رواية التاريخ) عام يعنى بالحركة التاريخية بعمومها فلا يهمل حقبة ويعنى بأخرى.
وبالتمثيل يتمكن الروائي من نقد التاريخ مهشماً قلاعه سردياً، كاشفاً عن نقاط ضعفه، عارفاً مواضع التخلخل فيه، مفسراً علة الوجود والزمان. هكذا يصبح تمثيل القول التاريخي في (رواية التاريخ) سياسة ما بعد حداثية، عليها يتوقف الوعي الذاتي بالأشياء متشكلا بالصورة والقصة والأيدولوجيا من خلال واحد من أنماط السرد الحديث الثلاتة وهي: نمط الخطاب المحاكاتي ونمط الخطاب الإخباري ونمط فهم التقنية السردية الذي به يتم الاشتغال على الشكل لنستنتج أن الأحداث كانت وهما.
من هنا لا تُعنى ( رواية التاريخ) بالتاريخ عناية مضمونية هي عبارة عن أحداث ووقائع حسب بل هي تعنى به أيضاً شكلياً وتقانياً كأن تحفر فنياً في المسميات محققة الإيهام السردي أو ما يسميه بول دي مان سلبية التخييل. وباتساع التمثيل في التعامل مع التاريخ، شمولاً للشكل وللمضمون تكون( رواية التاريخ) قد اكتسبت سمتها الاصطلاحية الجامعة المانعة.