ترجمة : عدوية الهلالي
ماذا يمكننا أن نفعل لكي نحلم بهذا العالم ، ونتخيله بشكل مختلف ؟..هل هنالك احتمالية لمستقبل آخر ؟
يجيب عالم الاجتماع الفرنسي الكبير إدغار موران عن هذه الأسئلة وغيرها في كتابه الجديد ( لنغير الطريق ..دروس من فايروس كورونا ) الصادر مؤخراً عن دار نشر دونويل والذي يصف أزمة كورونا فيه بأنها " خطيرة للغاية تاريخياً " ..
في عام 2021 ، سيكمل موران المئة عام ، ويقول إنه ولد ميتاً الى حد ما لأنه كان ضحية لوباء الانفلونزا الاسبانية التي انتشرت في عام 1921 ، وبعد 99 عاماً ، يشهد موران انتشار فايروس كورونا ، السليل غير المباشر للانفلونزا الاسبانية – في نظره - ..
في كتابه ، يحلل عالم الاجتماع والفيلسوف إدغار موران أزمة كوفيد 19 محاولاً فك رموز التمزقات وعدم اليقين الناتج عنها ، والتي يستخلص منها " دروساً" تسلط الضوء على أمل لعالم آخر جديد ..ويتساءل موران في الكتاب عن كيفية تسبب فايروس صغير ظهر في مدينة نائية في الصين في إثارة هذه الاضطرابات العالمية ، وعن قدرة البشر على الاستجابة ، وهل ستكون الصدمة كافية لجعل جميع البشر يدركون أخيراً مصيرهم خلال إبطاء سباقنا المحموم من أجل التنمية التقنية والاقتصادية ، فنحن نواجه اليوم ظروفاً جديدة وشكوكاً كبيرة ومستقبلاً لايمكن التنبؤ به ولم تستعد له البشرية التي تعيش في حالة تغير متوتر ، لذا حان الوقت لتغيير المسارات من أجل حماية الكوكب وإضفاء الطابع الانساني على المجتمع ..ويقول موران إنه تعلم من الأزمة التي عشناها مؤخراً ومن احتجاز أكثر من نصف البشرية بشكل غير مسبوق لمدة ثلاثة أشهر دروساً عديدة حول حالة عدم اليقين في حياتنا ، وعن علاقتنا بالموت وعن حضاراتنا ونشوء روح التضامن ، وعدم المساواة الاجتماعية في الحظر الصحي وتنوع أساليب إدارة الوباء حول العالم وطبيعة الأزمة ومايتعلق بها في مجال العلم والعمل السياسي والترحيل والدعم الوطني والأزمة في أوروبا والكوكب باكمله ..ويمكن اعتبار " عدم اليقين " الكلمة الأساسية لكل هذه الاسئلة لأننا لانعرف شيئاً مع هذا الفايروس وكيف نتعايش مع توقعات تستمر لمدة 15 يوماً ؟ فمع هذا التنبؤ المحدود والتفكير في الحياة والتاريخ الشخصي والسياسة والاقتصاد والمجتمع في عموم العالم ، يصبح تغيير المسارات أمراً ضرورياً لأن الحياة كلها مغامرة غير مؤكدة ، فنحن لانعرف مسبقاً ماستكون عليه حياتنا المهنية والصحية ولامتى سيحدث موتنا ، وإنْ كان مؤكداً !
لقد غيّر هذا الوباء الوحشي فجأة علاقتنا بالموت ، فقد أعادت الحداثة العلمانية شبح الموت الى أقصى حدوده كما يرى موران الذي يتبنى فكرة زيادة الخوف من الموت اليومي بسبب الواقع الصحي الرهيب الذي يمنع إقامة الطقوس اللازمة لتوديع الموتى وتعزية الأحياء مما يخفف الألم عنهم ..ومع ذلك ، فأن لهذه المحنة المذهلة فضائل منها إيقاظ الذاكرة التي نسيت الأوبئة الرهيبة في العصور الوسطى والأزمات الاقتصادية، وإحساس الإنسان بأنه قادر على السيطرة على الطبيعة والأزمات باستنهاض روح التضامن ومحاربة الأنانية الفردية بالاعتماد على تنوع المواقف الإنسانية وعدم المساواة وعدم اليقين العلمي ،إذ ينبغي علينا اليوم مواجهة التحديات التي تواجه البشر عموماً ومنها : تحدي العولمة ، والتحدي الوجودي والسياسي والرقمي والبيئي والاقتصادي ، وإذا لم نواجه هذه التحديات فأمامنا خطر التراجع الفكري والأخلاقي والديمقراطي الكبير ..
ولتغيير الطريق، يقترح موران في كتابه اتخاذ مسار جديد وليس ثورة ( إذ غالبا ماانتجت الثورات اضطهاداً يتعارض مع مهمتها في التحرر ) مايعني مساراً سياسياً ، ايكولوجياً ، اقتصادياً واجتماعياً ، وهو ماوصفه بالفعل في عام 2011 في كتابه ( الطريق) ، ويتطلب هذا المسار الجديد حوكمة منسقة تشمل( الدولة والمجتمع والمواطن ) وديمقراطية تشاركية ووعي لدى المواطن ، ولكن ، أيضاً ، وقبل كل شيء " سياسة تجمع بين العولمة وتراجع العولمة ، والنمو والانحدار ، والتنمية والانهيار " ، فيجب أن تكون هذه التناقضات الواضحة قادرة على أن تضيء الطريق عبر مواجهة أزواج من الأفكار التي تتعارض ببساطة والتي تجد نتائجها في التكامل الذي نراه في الطبيعة ، من خلال المساعدة والتعاون المتبادلين بما يؤدي الى تعايش الأنواع معاً وازدهار البيئات الحيوية وإنشاء هذا التوازن ..
ويقدم لنا إدغار موران كلمة أمل بتحليله الدقيق للغاية " لاخفاقاتنا " فنحن نتحدث عن " ضعف القلب " عندما تكون الشجاعة مفقودة ،وإذن ، فمواجهة الفايروس تتطلب اليوم شجاعة من البشر اليوم للشروع في هذا المسار الجديد ..ويمكن اعتبار موران اليوم أحد المفكرين الفرنسيين النادرين الذين أدركوا بشكل متأخر- ولكن في الوقت المناسب – أسلوب التفكير العادل في الوضع المعقد الذي يمثله الإنسان في تطوره الخارق للطبيعة ..
ومع عمر 99عاماً ، وشهادات دكتوراه فخرية من مايقرب من ثلاثين جامعة حول العالم ، يعد إدغار موران مؤلفاً كبيراً وأحد أكثر المفكرين شهرة في عصرنا ، وقد كرس حياته للبحث عن منهجية قادرة على تحدي التعقيد الذي يفرض نفسه حالياً، ليس على المعرفة العلمية فحسب، بل على مشاكلنا الإنسانية والاجتماعية والسياسية.. أسس وترأس جمعية "الفكر المعقد" ومن أهدافها دعم الأشكال المتنوعة للفكر التي تتيح الإجابة على تحدي التعقيد الذي يفرضه العالم، والمجتمع والكائن البشري على المعرفة العلمية والفلسفية والسياسية.ومن خلال هذه "الدروس من فايروس كورونا" ، التي تم تجميعها تحت عنوان ( لنغير الطريق) يعمل موران على فهم وإظهار مدى أزمة كوفيد الصحية -19 ، من أجل بناء هذا "العالم " ، الحساس والعقلاني ..
وفي حوار أجري معه ، تحدث موران عن فترة الحجر المنزلي بقوله إنه ربما لم يكن متحمساً لمثل هذا الحدث المفاجئ والذي يأتي كل يوم بمفاجأة جديدة وشكوك جديدة لكنه قضى وقته في القراءة والمراقبة والتفكير ، واكتشف أن العالم الخارجي لم يكن في مجمله حاضراً بهذا الشكل من قبل فقد شهدنا ظاهرة عالمية ، على جميع المستويات ، الصحية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، إلخ. لذلك كان وقتاً شديداً للغاية ، وفريداً جداً ، لدرجة أنه لم يتمكن من الانغماس في قراءة الكتب القديمة الخالدة ..ولكن ،مع نهاية هذه الفترة الخاصة للغاية ، شعر بالحاجة إلى تعلم ما أسماه "دروساً" ، بالتعاون الوثيق مع زوجته عالمة الاجتماع صباح أبو السلام. وقبل كل شيء شرح الحاجة الماسة إلى "تغيير المسار".ويقول موران إنه أحب هذا التمرين المتمثل في الرد ومحاولة تحليل الأحداث بسرعة فهو يحب المخاطرة ، وهنا تبدومحاولة تقديم مساهمته المتواضعة بهذه الطريقة وعندما يتعلق الأمر بأحداث ليس لها بعد منظور فهي مخاطرة حتماً ..
ولدى سؤاله إن كان الدرس الرئيس لهذه الأزمة هو ، بعد كل شيء ، وضع الإنسان ، أو الأحياء ، في المقام الأول أو في مركز اهتماماتنا ، حيث عاد الموت فجأة ليطوف قريباً منا؟ قال إن الموت جزء من الإنسان! لكن بالنظر إلى كل معاني كلمة الإنسان،فأن الفرد ، قد تأثر بعمق ، كل في طريقة حياته ، وانتقل فجأة من منفتح (في حياته الاجتماعية ، في العمل ، في أوقات فراغه) الى شخص انطوائي. وربما جعل هذا الجميع يفكرون في أسلوب حياتهم وسلوكهم وكيف أنهم يشبهون إلى حد ما لعبة في آلة ضخمة ،فقد تأثر البشر بهذا الاضطراب، ولكن يجب علينا أيضاً أن نواجه اليوم المشكلات التي أحدثتها العولمة ، والتي وحدت هذه الإنسانية تقنياً وثقافياً. ذلك إن الإنسان هو الذي وُضع في قلب هذه الأزمة وبالتالي كان هو المشكلة المركزية.ولأن كوفيد 19 ذكرنا بالمبادئ التي تصنع المجتمع لذا يتحيز إدغار موران الى جانب مايوحد البشرمن مشاعر الحب والتضامن ..
عن صحيفة لوموند الفرنسية