د.ابتسام مرهون الصفار
شغل إبداع القصيدة النقاد والشعراء قديماً وحديثاً، فقد تفاوت الشعراء في استجاباتهم لدوافع القول الشعري ، واحتاروا في تفسيرها،كما تفاوت النقاد في طرائقهم في نقد الشعر.
وجدنا في النقد القديم حضور الناقد أمام الشاعر وإصدار حكمه عليه ،تجلى هذا فيما عرف في مجالس النابغة الذبياني في سوق عكاظ وسماعه لشعر حسان بن ثابت والخنساء.وكان لشعراء النقائض حكايات مع النقد المباشر لأشعارهم ،مما حفلت به كتب الأدب في تفضيل أحد هؤلاء الثلاثة.
وأما نقد ابن أبي إسحاق لشعر الفرزدق فتجد فيه مواجهة بين ناقد لغوي كان يحتج على استخدام معين لمفردات اللغة ، أو مخالفة لقواعد النحو وكان جواب الفرزدق له حاداً عنيفاً. وشهدت مجالس الخلفاء والولاة نشاطاً نقدياً ظهر في المفاضلة بين الشعراء.
وهناك ظاهرة عرفت في النقد القديم والحديث,هي توقع القافية، حين ينشد الشاعر قصيدة تخطر القافية ببال المستمع ، فيظن أنه قادر على النظم وهو ليس كذلك ، وإنما ما يتوقعه هو دليل على قدرة الشاعر المبدع على اختيار قوافيه بجعل ألفااظ البيت منسجمة بتسلسل طوعي تفرض فيه القافية المتوقعة مكانها في دلالة السياق وإيقاعه.فيخيل للقارئ أنه يسهم في بناء البيت والقافية.
وفي العصر الحديث نجد مقولة "موت المؤلف" مقولة مشهورة لرولان بارت الذي نشر مقالة بهذا العنوان عام1968، ثم نشر كتاباً أيضاً بهذا العنوان ترجمه الى العربية عبد السلام بن عبد العالي.
إن موت المؤلف لا يعني إلغاءه نهائياً ، وإنما يعطي أهمية كبيرة للقاريءوالناقد خاصة فهو عنصر فعال في إبداع النص وفهمه، وقد تبع هذا المصطلح ثلاثية : المؤلف- النص - القاريء. إن دور القارئ لايقل أهمية عن دور المؤلف المبدع إنه يحيي معاني النص ومضامينه.
والملاحظ الآن أن نصوصاً كثيرة تنشر على النت فيها الجادُّ المميز وفيها الهباء المنثور الذي استغل فيه بعض مَن يُسمّون أنفسهم شعراء فرصة نشر نصوص لا ترقى إلى الفن والأدب ، وغياب الرقابة الأدبية، ووظفوا جماعات لا يقلون عنهم جهلاً بالشعر والشاعرية؛ لينقدوا أشعارهم ويمجدوها، وبمجرد أن يقرأ القارئ منهم أبياتًا من النص المنشور يبدأ بإرسال عبارات الثناء المجامل مثل ( أحسنت ، أحسنت ، قصيدة رائعة،سلم فوك ،الله الله) وهكذا لاتجد غالبا شعراً جيداً ولا تجد ما يمتُّ بالقصيدة والأدب ولانقداً جاداً. وهؤلاء لا يستحقون المتابعة والقراءة ؛فهم يسهمون في إفساد الذائقة الأدبية.
في الوقت نفسه لا نعدم وجود نقاد يكتبون نقداً على صفحاتهم أوصفحات غيرهم تتسم بالموضوعية والجدّ. و يبقى التساؤل مشروعاً عن جدوى النقد في صفحات النت ، والإجابة متفاوتة تفاوت الأدباء والنقاد ، وتكون الآلية أن يكتب شاعر نصاً وتتوالى بعده التعليقات والآراء النقدية ، وهذا لا يختلف عن النقد المعهود في الكتابات الورقية ، لكن هناك تجربة جديدة بين شاعر وقارئ متابع لأشعاره إذ تجاوزت المتابعة نقد القصيدة إلى متابعة ولادة القصيدة مذ كانت جنينا حتى اكتملت شابة شامخة .كتب شاعر إلى صاحبه صباحاً :كنت أحلِّق لحيتي وأردد هذا البيت ...... أصبحت أسير واردده في نفسي ، ولا أدري أهو لي أم من محفوظاتي؟فيجيبه صاحبه القارئ لأشعاره العارف بأسلوبه أظنها لك !
فقال الشاعر :لم تقل هل اعجبك البيت ، وهل هو لي أم لا ، وكيف جاء على لساني إن كان لغيري كيف جرى على لساني؟ هل هي لحظات جنون الشاعر! نظم الشعر سهل ،المهم الأفكار . وقرأت يوما أن الجواهري كان يسمع من بعض أصحابه أفكارهم، فإذا عاد إلى البيت نظمها شعراً.
-أخي هذا الرأي خلاف ما يقوله الجاحظ المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ ". الأفكار موجودة ولكن جئني بالشاعر المبدع الذي ينظمها شعراً.
بعد دقائق كتب الشاعر لصاحبه البيت الثاني ....فأجابه صاحبه : إذن البيت الأول هو لك .وتوالت الأبيات الشعرية دقائق أو ثواني بين بيت وآخر،ويضع الشاعر اختيارات الألفاظ والتعابير أمام صاحبه متسائلاً أيهما أجمل، فيختار له صاحبه ،وصاحبه ليس بشاعر ولكنه متذوق للشعر ناقد له. وهكذا تكتمل الأبيات نظماً دون ترتيب ، فيتناقش الشاعر مع صاحبه عن الأبيات التي يمكن أن تقدم والأخرى التي تؤخر .
إن هذا يذكرنا بتجربة ابن طباطبا الشعرية التي شرحها في كتابه عيار الشعر بأنه يختار القافية للقصيدة أولا وينظم الأبيات في المرحلة الأولى كيفما تأتي، ويعود إليها في المرحلة الثالثة ليرتبها وينظم أبياتًا تربط بين أبياته المتناثرة تجعلها متماسكة مترابطة.يقول ابن طباطبا:( فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثراً، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه، فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر، وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه على تفاوت ما بينه وبين ما قبله. فإذا أكملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفّق بينها بأبيات تكون نظاماً لها وسلكاً جامعاً لما تشتت منها)
كان عمل شاعرنا المتحاوركعمل ابن طباطبا، ولكنه حاور صاحبه في انتقاء الكلمات التي يضعها وفي ترتيب الأبيات التي يقترحها، فقال له صاحبه هذه متابعة لقصيدتك بيتاً بيتاً , إنها تجربة جديدة تجعل المؤلف والنص والقاريء حالة مترابطة، وتلغي نظرية موت المؤلف.