امستردام: صلاح حسن
مع إن هذه القصيدة الطويلة الباهرة لا تستدعي أسطورة معينة بقدر ما تصنع أسطورتها الخاصة بها ، وهي أسطورة يومية تستمد وقائعها من الحاضر والمعاش ،
لكن اللغة التي تستخدمها الشاعرة في هذا النص المكون من ثمانية أجزاء تقلب موازين اللغة وتدمر وظائفها الاجتماعية والجمالية . السرد الشعري في نص آناماري أستر ( باطن منكب التيس ) ترجمة حازم كمال الدين دار نشر فضاءات 2020 ، منفلت ولا تردعه أية حواجز حين يقوم بأنسنة الأشياء بطريقة برية أن صح القول ، فهو لا يتقيد بأية قاعدة لغوية أو فكرية أو حتى اخلاقية .
هذا السرد أو الحكاية الشعرية يرصد حالة ثلاثة أشخاص كلهم يعيشون أزمة نفسية واجتماعية وحضارية في الوقت نفسه . مينانا المرأة الشابة وزوجها الصموت كما تصفه الشاعرة وعزام الشاب المغربي الذي يصفه النص بنصف إله ونصف إنسان ونصف حيوان ، حيث تتعلق الزوجة الشابة بالمغربي عزام وتهجر زوجها من أجله ، بل تترك بلدها وكل شيء وتذهب معه إلى المغرب من أجل الحصول على أكبر قدر من اللذة الحيوانية التي لا تستطيع الفكاك منها ، تلك التي يقدمها لها عزام بكل وحشيته وقسوته وخطورته ونتانته .
" فزعا أرتفع الجدار الضرير في ذلك الشارع / واجهة جانبية لزريبة أصبحت طللا . / لم أبصر إلا بمرور الوقت الظل الذي رماه / والشعارات التي على جسده المفتت / صفائح ، صناديق مبتلة داهمها النوم قريبا من قدميه / منشورات مهملة ، بساط بشظايا من زجاج / خزان صرف صحي كنت أشم / صرير حياة كنت أسمع " .
في الجزء الثاني من النص تصف الشاعرة علاقة الفتاة الشابة المتلهفة لعلاقات جنسية غريبة وحيوانية مع عزام الذي هو نصف إله ونصف إنسان ونصف حيوان في بيته المتهدم " الماضي " والذي يجدد من خلال إعماره " المستقبل " لكنها في النهاية تشعر بتأنيب الضمير . إن إغراء عزام لمينانا لا يقاوم ، مع أنها تعرف أنه خطر ونتن وعنيف ، ولكنها لا تستطيع السيطرة على نفسها وهي تعرف أنها في خطر .
"ذات لحظة / متصاعدين وصاخبين / وصلنا فسحة أخرى / منخفضي الرؤوس / هناك بزغ فمه ، فمه الذي عبأني / ببذور الطماطم ، ذهبت معه إلى فسحة متوارية أخرى / حينما قدمنا ، كنا ناضجين ، وكنا نسيل على وجنات بعضنا / على أفخاذ بعضنا ."
في الفصول المتبقية تزداد اللغة شراسة وعنفاً وعرياً ، يوازي العنف الذي يكتنف الحكاية الشعرية في مساراتها المتقلبة وتعقيدها الذي يشبه الخرافة ، بحيث يصبح القبح ممراً للعملية الجنسية ويكاد أن يكون سبباً جوهرياً للقيام بها وبطريقة حيوانية مقصودة . " عزام ينشب فكه في مفاصلي ، سيشقني ويهضم نخاعي / وفي خضم نزيف الدم كله سأرتشف قعر مائه " .
تتناول القصيدة الطويلة هذه أكثر من فكرة وأكثر من شخصية ، فلو قمنا بتحليل هذه الأفكار أو المواضيع فأننا سنجدها تتمحور حول العاطفة والجنس والخمر والخصوبة ، البرية ، التلوث ، الليل . ولو قمنا بوصف أبطال القصيدة فهم مينانا الزوجة الشابة المترعة بالعاطفة الجنسية والتائقة إلى حياة برية خارج أية قوانين أخلاقية أو أجتماعية ، عبث ، مجون ، تلوث . أما البطل الثاني فهو الصموت " زوجها " الذي يتقبلها كما هي بعدل كل العبث الذي مارسته مع عشيقها عزام . البطل الثالث الذي نجد وصفا له في القصيدة بوصفه نصف إله ونصف بشر ونصف حيوان يكاد أن يكون محور القصيدة . هذه الطبائع الثلاث تحضر كل واحدة على حدة في أجزاء القصيدة بشكل متفاوت ، ومرات أخرى تحضر أكثر من طبيعة ، خصوصا الطبيعة البشرية والطبيعة الحيوانية ، لكن في نهاية النص تهيمن الطبيعة الحيوانية بشكل كامل على عزام بعد أن يشعر إن العلاقة مع مينانا توشك على الانتهاء ، خصوصا وهي حامل منه.
" هل خنق خوف لا أساس له الطفل الغض؟ / هل أنفجر عزام حقاً بمثل تلك الطريقة الحقيرة / هل أرتجفت أكثر مما ينبغي عند ذلك الأفول ؟ " . الطفل الغض يعني هنا الإجهاض ، وانفجار عزام هو موته الرمزي أو الحقيقي ، والأفول هو الصدمة من موت عزام الرمزي أو الحقيقي .
" طلبت من الصموت / دعنا نتحدث عن قشرة النار ، لعلي أحمل رماداً / في رئتي وأطلب منك : إبق معي " . هكذا تنتهي القصيدة بطلب المغفرة من الزوج الصموت ونسيان الماضي والعبور على الزمن .
حصلت قصيدة أناماري أستر هذه على جائزة هرمان دي كوننك الهولندية كأفضل كتاب شعري لسنة 2013 . وقد وصفت لجنة الجائزة أسباب منحها الجائزة " نادراً ما يظهر مثل هذا الوصف لعلاقة حب شبه شيطانية في الشعر الهولندي " . سبق لأناماري أن فازت بنفس الجائزة في العام 2011 عن ديوانها " أشواك النار " وبعد ذلك حصلت على جائزة يان كمبرت عام 2018 عن ديوانها " مساء الأرض الحرام".