ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
القسم الأوّل
غمرتني السعادة وأنا أطالعُ في الصحافة البريطانية خبر وصول أحدث كتب البروفسور جِم الخليلي Jim Al-Khalili المنشور بعنوان ( العالم كما تراه الفيزياء The World According to Physics )
في آذار من هذا العام ( 2020 ) إلى القائمة القصيرة لجائزة أفضل كتاب علمي في بريطانيا ؛ فهذا بعض التنويه المستحق لعالم فيزيائي ذي اهتمامات معرفية متعددة كتبتُ عنها في أعداد سابقة من المدى فضلاً عن نشري حواراً مطوّلاً معه إلى جانب مقالاتي العديدة التي تناولت نشأته العراقية الأولى .
لاأعرف مدى مصداقية العبارة المنسوبة إلى اللورد رذرفورد ( وهو أحد أعاظم الفيزيائيين التجريبيين ) والتي فحواها أنّ العلم الحقيقي هو الفيزياء ، وكل شيء سواه لايعدو أن يكون جمع طوابع !! . قد تبدو العبارة راديكالية المحتوى ؛ لكنها تنطوي على جوهر حقيقي يُعلي شأن الفيزياء ويراها علماً ثورياً في إمكاناته ومدياته التي تداعب أحلام كلّ فرد منّا وبخاصة في بواكير نشأته وقبل أن تذوي طاقته التخييلية بفعل كسله الشخصي أو إنغماره في مسارب الحياة المختلفة . ثمة الكثير من العوامل التي جعلت الفيزياء علماً ساحراً قادراً على إطلاق قدرة التخييل الرفيع لدى الفرد ، ولعلّ أهمّ هذه العوامل هو كون الفيزياء الوريث الشرعي الوحيد الذي حمل راية ( الفلسفة ) وعمل على تحقيق تطلعاتها في مساءلة الأسئلة الكبرى في الحياة وفهمها ، وليس غريباً بعد هذا أن توصف الفيزياء بمسمّى ( الفلسفة الطبيعية ) في العديد من الجامعات الغربية ( الجامعات الأسكتلندية مثالاً ) .
تتّسمُ البلدان المتقدّمة بجُملة من الخصائص ، ومن هذه الخصائص أنّ كلاً من تلك البلدان تمتلك تأريخاً مشرقاً في البحث الفيزيائي حتى بلغ الأمر أن تأسست في البلد مدرسة مميزة للفكر الفيزيائي ( والرياضياتي كذلك ) ، وسيكون أمراً بديهياً أن نتوقّع شيوع الشغف في القراءة الجادة والعميقة والمنتظمة للمنشورات الخاصة بالفيزياء والرياضيات منذ الصغر ، وستوفّر هذه القراءات نوعاً من القاعدة العلمية الواسعة التي ستخدم جبهتين : الأولى حبّ العلم والبحث العلمي واعتباره نوعاً من الشغف العلمي الذي يملأ كيان المرء ويمكن أن يغدو حرفة مستقبلية ناجحة ورائعة ، والثانية توفير أساس مادي ومعرفي لكلّ التطوّرات العلمية والتقنية المستقبلية التي لن تكون ممكنة من غير جيل من الفيزيائيين فضلاً عن عشّاق الفيزياء . توضّحُ لنا هذه المقدّمة التمهيدية الأهمية الحاسمة لإشاعة الفكر الفيزيائي على كل المستويات ( كتب ، إذاعة وتلفاز ، وثائقيات علمية ، سلاسل حوارية ، منتديات ،،،،، ) ، وعليه ليس غريباً أن تخصّص الحكومات والجامعات والمؤسسات البحثية في بلدان العالم المتقدّم موارد ضخمة لنشر المعرفة الفيزيائية الأساسية في أشكال ووسائط محببة للعقل الشغوف ، وهي إذ تفعل هذا فهي مدركة تماماً أنها تضيف عنصراً من عناصر المقدرة الستراتيجية التي ستنعكسُ مفاعيلها في القدرة العلمية والتقنية للبلد .
حفل عالم نشر الثقافة الفيزيائية الجمعية بأسماء لامعة كان لها دور عظيم الأثر في إشاعة الفكر العلمي والتنويري ، ولعلّ كثيرين منّا يذكرون أسماء مثل : آرثر سي. كلارك ، جورج غاموف ، إسحق أسيموف ، كارل ساغان ، جاكوب برونوفسكي ، ميشيو كاكو ، براين غرين ، كارلو روفيلّي ،،، إلخ ؛ لكنْ شاع في العشر سنوات الأخيرة إسمٌ ربّما لم يسمع به الكثيرون - ذلك هو البروفسور جم الخليلي المولود في العراق عام 1962 .
جِم الخليلي هو بروفسور الفيزياء النظرية وأستاذ كرسي الفهم الجمعي للعلم في جامعة سرّي ، وفضلاً عن هذا فهو حاصلٌ على ميدالية (مايكل فارادي ) التي تمنحها الجمعية الملكية ، وميدالية ( كلفن ) التي يمنحها المعهد البريطاني للفيزياء ، إلى جانب العديد من شهادات الدكتوراه الفخرية من جامعات مرموقة عديدة في العالم . يُعرَفُ عن البروفسور الخليلي كونه مقدّماً حاذقاً للبرامج العلمية إلى جانب كونه مؤلفاً للعديد من الكتب التي لاقت رواجاً واسعاً ، وهو لاينفكّ يتحفُنا بالعديد من الوثائقيات العلمية المبهّرة في شتى صنوف المعرفة العلمية . أذكر أدناه أهمّ الكتب التي نشرها البروفسور الخليلي والتي حقّقت مقروئية واسعة على أوسع النطاقات الجماهيرية :
- المفارقة : الأحجيات التسع الأعظم في الفيزياء
- الحياة على الحافة : العصر القادم للبيولوجيا الكمومية
- الكم : دليلٌ للحائرين
أحدثُ كتب البروفسور الخليلي هو الكتاب الذي نُشِر مؤخراً ( في العاشر من شهر آذار 2020 ) ، بعنوان ( العالمُ كما تراه الفيزياء The World According to Physics ) ، نشرته جامعة برينستون الأمريكية وهي إحدى جامعات النخبة الأمريكية . ضمّ الكتاب مقدمة رائعة بالإضافة إلى عشرة فصول إختصّ كل منها بتناول واحد من المفاهيم الاكثر جوهرية في الفيزياء الكلاسيكية والحديثة ، وهذه الفصول هي على الترتيب : رهبةُ الفهم ، المقياس ، المكان والزمان ، الطاقة والمادة ، العالَم الكمومي ، الديناميك الحراري وسَهْمُ الزمان ، توحيد القوى ، مستقبَلُ الفيزياء ، فائدة الفيزياء ، التفكيرُ بطريقة الفيزيائيّ . لم ينسَ المؤلف أن يضمّن الكتاب قائمة ختامية تضمُّ عناوين مرجعية لكتب منتخبة بدقة مع تعليق من جانب المؤلف يبيّن أهمية هذا المرجع في سياق التطوّر التأريخي لفهم الفيزياء .
دفعتني قراءة كتاب البروفسور الخليلي إلى إستذكار اللذة العميقة التي لطالما غمرتني كلّما قرأت كتاباً علمياً جديداً مثيراً في مادته أو تابعتُ على إحدى الفضائيات سلسلة وثائقية تتناول إحدى الموضوعات العلمية التي يحفل بها عالمنا المعاصر، ولطالما كنت اتساءل بعد كلّ قراءة أو مشاهدة مثمرة : لِمَ يبدو العلمُ لدينا مملكة عصية الإختراق لا تفتح مغاليقها إلا لصفوة من النخبة ( أو بتعبير أدق : لمن نتصوّرُ أنهم الصفوة البشرية المنتخبة ) ؟ وما السبب الذي يجعل العلم لدينا أقرب إلى الملغزات المفاهيمية المستعصية على الفهم الجمعي؟ ولماذا يبدو لنا آينشتاين - على سبيل المثال - أحد الشخوص الأسطورية في الوقت الذي يتعامل معه الغربيون باعتباره شخصية ثقافية حالها حال الكثير من الشخصيات الثقافية التي نتعامل معها بصورة يومية ؟
ليس العلم بذاته محض قوانين ومعادلات رياضياتية أو تمظهرات تقنية فحسب ؛ بل هو توليفة متكاملة ومتناسقة من أنساق مفاهيمية تمنح الفرد قدرة على رؤية العالم بطريقة متمايزة نوعياً عمّا يراه الفرد غير المؤهّل علمياً ، وتنعكس آثار هذه الرؤية على كيفية تشكيل النسق الثقافي السائد إلى حدّ أصبحنا معه نشهد الكثير من المنظّرين الثقافيين وممارسي الثقافة المؤثّرين من الحائزين على أرقى المؤهلات العلمية في الفيزياء والرياضيات وسواها ، ومازالت كثير من الأوساط الفاعلة في ترسيم خارطة ثقافتنا العربية تُعدّ العلم اشتغالاً فوقياً بعيداً عن ملامسة قاع البنية التحتية للثقافة بدلاً من اعتباره مغامرة كبرى - بمثل ماكان العلم في حياة الخليلي - فربما تساهم قراءة هذا الكتاب في تفكيك هذه الفوقية وإشاعة الفهم الحقيقي للعلم باعتباره إشتغالاً فكرياً رفيعاً يمتلك القدرة على إحداث تغيّرات عظمى في حياة الإنسان وفكره وبيئته .
البروفسور الخليلي كاتب رائع متمرّسٌ بفنون السرد العلمي - التأريخي والإمساك بشغف القارئ ودفعه دفعاً للقراءة الشغوفة ، وسأقدّمُ أدناه ترجمة للمقدّمة التي كتبها في كتابه ( العالم كما تفهمه الفيزياء ) .
المترجمة
هذا الكتاب هو قصيدة غنائية Ode كتبتُها للفيزياء .
أغرِمتُ بالفيزياء وهمتُ بها عشقاً أول الأمر وأنا لم أزل مراهقاً بعدُ ، ولابد لي من الإعتراف هنا بأنّ هذا العشق للفيزياء إنما كان ( في البعض منه على الأقلّ ) بسبب إدراكي المبكّر بأنني أحقق إنجازاً أكاديمياً مدرسياً لايمكن إغفاله في هذه المادة ؛ فقد بدت لي الفيزياء حينذاك خليطاً مبهجاً من حلّ الألغاز والبداهة العامّة ، وقد إستطبتُ لأبعد الحدود اللعب مع المعادلات ، والتعامل مع الرموز الجبرية ، والتفكّر في الأرقام بكيفية تكفلُ كشف أسرار الطبيعة ؛ لكنني أدركتُ في الوقت ذاته أنني إذا ماسعيتُ للحصول على إجاباتٍ مُرْضية بشأن الكثير من الأسئلة العميقة التي كانت تتفجّرُ في عقلي المراهق بشأن طبيعة الكون ومعنى الوجود فإنّ الفيزياء هي الموضوع الذي يتوجّبُ عليّ دراسته . أردتُ أن أعرف : مِمَّ نحنُ مصنوعون ؟ من أين أتينا ؟ هل للكون بداية أو نهاية ؟ وهل الكون محدودٌ في أبعاده أم أنه يمتدّ إلى حدود لانهائية ؟ ماهذا الموضوع الذي يدعى ( ميكانيك الكم Quantum Mechanics ) الذي جاء أبي على ذكره أمامي في إحدى المرّات ؟ ماهي طبيعة الزمان ؟ قادني مسعاي للعثور على إجابات لهذه الأسئلة إلى حياة عشتها بأكملها وأنا أدرسُ الفيزياء ، وقد حصلتُ الآن على إجابات مقبولة لبعضٍ من تلك الأسئلة ، ولازلتُ أسعى بكلّ ماأستطيعُ للحصول على إجابات مقبولة للبعض الآخر منها .
ينعطفُ بعض الناس إلى الدين أو آيديولوجية ما من الآيديولوجيات السائدة أو إلى نسق معتقدي ما بغية الحصول على إجابات لأحجيات الحياة الغامضة ؛ لكنْ بالنسبة لي ليس ثمة من بديل مقبول عن وضع الإفتراضات الدقيقة ، والإختبار ، ومن ثمّ إستنتاج النتائج من الوقائع المعروفة عن عالمنا ، وهذه كلها تمثّلُ المثابات المميزة للمنهجية العلمية المعروفة . إنّ الفهم الذي تحصّلناه باعتماد العلم - الفيزياء بخاصة - بشأن كيفية تشكّل العالم وكيفية عمله ليس ، بحسب رؤيتي ، واحداً بين طرق كثيرة متساوية الأهمية والإعتمادية في البحث عن " الحقيقة " بشأن الواقع الفيزيائي الذي نعيشه ؛ بل هو الطريقة الوحيدة التي نملكها في وقتنا الحاضر والتي تمتلك الإعتمادية الموثوقة بالمقارنة مع سواها .
ليس من شكّ في أنّ العديد من الناس لايحبّون الفيزياء أبداً بمثل ماأحبها ( بل بمثل ماأعشقُها ) أنا ، وربما إبتعدوا في حياتهم عن دراسة العلم لأنهم إعتقدوا ( وربما قيل لهم من آخرين ) أنّ الفيزياء موضوعٌ شاق لايستطيعه غير قلّة من العباقرة ، والحقّ أنّ معرفة بعض العناوين الفرعية في أيّ كتاب يتناول ميكانيك الكمّ - على سبيل المثال - لهو مجلبة للصداع ؛ لكنّ الأعاجيب المدهشة التي ينطوي عليها كوننا يمكن ( بل يتوجّبُ ) أن تستثير شغف كلّ واحدٍ منّا ، فضلاً عن أنّ إمتلاك معرفة أساسية في الفيزياء أمرٌ لايقتضي الإنغمار في دراسةٍ تمتدّ طول العمر . أريدُ من هذا الكتاب أن أصف السبب الذي يجعل الفيزياء على هذا القدر الهائل من الإدهاش ، ولماذا غدت علماً أساسياً ، وماالسبب الذي يجعلها مادة جوهرية وحاسمة في فهمنا للعالم . يمثّلُ المنظور المتعاظم والمدى الواسع للفيزياء في يومنا هذا حدوداً تصيب المرء بالدهشة ؛ فالفيزياء هي التي جعلتنا اليوم نعرفُ ممّ تتكوّنُ كلّ الأشياء ( تقريباً ) التي نراها في العالم وكيف تترابط مكوّناتها مع بعضها ، والفيزياء هي التي مكّنتنا من تتبّع التأريخ التطوّري للكون بأكمله وحتى الأجزاء البسيطة من الثانية الأولى التي أعقبت نشأة الفضاء والزمان كليهما ، والفيزياء هي التي ساعدتنا ( بواسطة معرفتنا الدقيقة بالقوانين الفيزيائية التي تحكمُ الطبيعة ) على تطوير - والإستمرار بتطوير - التقنيات التي أحدثت إنتقالاتٍ جذرية في حياتنا . هذه الحقائق كلها وقائع صاعقة إلى أبعد الحدود ؛ لكن برغم هذا أجدُني أتساءل مع نفسي وأنا أكتب هذه العبارات : كيف يمكنُ لفردٍ ما منّا أن لايحبّ الفيزياء ؟ يُراد من هذا الكتاب أن يخدم هدفاً محدّداً : أن يكون مقدّمة لفهم البعض من أكثر الأفكار عمقاً وأساسيةً في الفيزياء .
يُتبعُ في القسم الثاني .....