طالب عبد العزيز
وأنت بهذا الحشد من السنين، وبما تهدّم من جسدك وروحك، في البلاد لم تعد تعني أحداً، ما الذي تتوخاهُ امرأة، غانية، تطل عليك من عالم الآخرين الأزرق، تدعوك لحوار جسدي؟
أيّ صفاقة تبثها لنا الوسائط الالكترونية هذه؟ بحدود معرفتي، فأنا لا أعتقد بوجود مثل هذه في بلدان أخرى، تحترم حياة مواطنيها، وتقدّر ضرر دخول مثل هذه وتلك على أحد فيها. بلاد تافهة هذه التي تلاحق عساكرُها شبابها الثائر المنتفض ضدها في الطرقات، وتمعن فيهم تقتيلاً وملاحقة، فيما تسمح جيوشها الالكترونية باستباحة القِحاب صفحات الناس المحترمين من مواطنيها.
نعم، أعلمُ بأني قادر على حذف الرسائل السخيفة هذه بضغطة زر، وأعرف سبل التخلص من هذه وتلك بطريقة ما وبأخرى، لكنني، أشعرُ باختراق لخصوصيتي، وبقبح فعل كهذا، وبتسطيح فج لما أحمله من قيم وأفكار، مثلي مثل آلاف المتصفحين، الذين ربما أكون قد بالغت في حصافتهم ورشدهم، لكنني أجدهم على الحرج الذي انا فيه. هناك ما لا نحبُّ رؤيته، شخصياً، ومنذ مراهقتي، أكره كرهاً شديداً مشاهدة أفلام البورنو، وأجد فيها تحقيراً للجسد الأنثوي، ذلك، لأنني أشعر بأن العلاقة الحميمة قضية شخصية جداً، وهناك طهرٌ لا يجب التقليل من شأنه، وأن كل ما يحدث في سرير بين رجل وامرأة يجب أن يكون مطوياً، غير مصرّح به، لا في صورة ولا في كلام، ولا اتحدث بمنطق دين ما، أبداً، إنما هكذا أجد كمال الإنسانية.
لا بد من القول:" إذا كان الانسان بطبيعته قد جُبل على الحَسن من الأفعال، وحريصاً على رعاية قيم الجمال، فان الشاعر أحرى بأن يكون أشدَّ حرصاً من أي مخلوق آخر" وقد وجدتني على هذه منذ أن وعيت الدنيا، ذلك، لأن الحياة لا تستقيم بتحطيم قيم وثوابت الآخرين، وأي فعل شائن يهدم مبنى في عمارة الروح، قد لا نتحسسه فينا اليوم، لكنه يتضح شيئاً فشيئاً بيننا، في أولادنا، وبنية أجيالنا الجديدة، وما تفرط الحكومة به في هذه وتلك، التي تراها بسيطة لهو الجريمة عينها، وربما تكون أزمتنا السياسية والمالية وعدم قدرتها على تأمين رواتب الموظفين وغيرها من الأزمات لا معنى لها إزاء ما يتهدم من القيم فينا، وتحولنا من مجتمع راعٍ لثوابته في الأخلاق وقيم الإنسانية الى مجاميع نهمة، متوحشة تفترس حاجاتها بمخالب دامية، في غابة لن يكون الشاعر ضحيتها حسب.
وأنا مستمتع بصوت صباح فخري، في قدوده الحلبية، ومقطوعته باذخة الجمال (جار القمر) وعلى وقع تنقلات حذاء الراقصة ذات العشرين ربيعاَ، على مربعات الشطرنح بالأبيض والأسود، في القاعة التي تفرقت الاسر الدمشقية على طاولاتها، في الليلة الجميلة تلك، وبعد أن أترعتُ كاسي الثالثة جاءني، وعبر محيطات الدنيا صوتٌ فيلمي لحبيبة ما زال القلب ينعم بذكراها، هي مما تفننت الطبيعة في صنعه، لتقول لي:" وجدتُ أنه من المناسب، أن أريك هيأتي بملابس الجري على العشب، فقد أطلت شمسُ المدينة اليوم، وكانت قد غابت عنها اليومين الماضيين، لتعيدني الى ما كنا عليه ذات يوم، الى العواصم التي جمعتنا وفرقتنا، الى القصائد والقُبل ولحظات الجنون، الى كل ما استعيده الآن لأتوازن فيه شاعراً وإنساناً، ومن ثم لأتوارى خلف الشاشة الزرقاء، التي ما انفكت تغريني بالجسد الناقص، الذي لا أحبهُ مشاعاً، مستهلكاً في الفضاء.