ثائر صالح
لو نظرنا الى صور الكمانات التي صنعها ستراديفاري وزملاؤه الحرفيون المهرة، لرأيناها تختلف قليلاً عن الكمان الحديث الذي نعرفه اليوم. فهناك عدد من الاختلافات البسيطة لكنها اختلافات جوهرية تؤثر على طريقة العزف بشكل كامل.
الفارق الأول والأساس هو استعمال أوتار من المصارين في كمان الباروك، ولف الوتر الغليظ بأسلاك من الفضة لزيادة وزنه وسمكه وكان صوتها دافئاً ومميزاً. لكن هذه الأوتار كانت حساسة وتتأثر بتغير الحرارة وبالرطوبة مما يتطلب وزنها بشكل مستمر. في المقابل أخذ العازفون يستعملون الأوتار المعدنية والمصران منذ العصر الكلاسيكي واستمر التطوير على مواد الأوتار حتى اليوم بإدخال أنواع من الفلزات والسبائك والمواد المخلقة (بوليمرات) في صناعة الوتر.
الفارق الآخر هو مقدار ارتفاع الجسر (الغزالة) المصنوع من خشب الإسفندان، وقوة شد الوتر. إذا كان الجسر في عصر الباروك أقل ارتفاعاً، شدت الأوتار عليه بتوتر أقل، مما ساعد وقتها على عزف الكوردات (عدة أوتار في نفس الوقت) والأربيجوات (عدة أوتار بالتتابع) المميزة لموسيقى الباروك. في مقابل ذلك تميز العزف في العصرين الكلاسيكي والرومانتيكي بالمهارة والسرعة مما تسبب في تمديد لوح الأصابع واستعمال خشب أكثر سمكاً وصلابة لتغطية الزند، فاستبدل خشب البقس الفاتح بالأبنوس الداكن. تغيير الأوتار وزيادة شدها أثرا على قوة الصوت، فأصبح رنين الكمان أقوى وصوته أنسب للفضاءات الكبيرة.
يختلف القوس ومسكته كذلك. لم يوجد شكل مقنن لقوس الباروك وهناك أشكال متعددة له، لكنه هو قوس قصير ومحدب الى الأعلى، بينما أصبح قوس الكمان المعاصر أكثر طولاً وأثقل وزناً وهو شبه مستقيم، مقعر قليلاً. عند وضع القوس على الوتر يرتخي شعر الحصان قليلاً في البداية فيعطي للحظة حشرجة عند استعمال قوس الباروك، بينما ينشد الشعر أكثر في حالة القوس الحديث، كل هذا بسبب االتحدب والتقعر في خشب القوس. هذا التغير رافقه تغير كبير في طريقة العزف، خاصة إذا أخذنا في نظر الاعتبار طريقة مسك الكمان. إذ لم يضعه عازف الباروك تحت ذقنه بل سنده إلى صدره، وربما وضعه على فخذه مثلما يفعل العازفون المغاربة. كانت هذه الطريقة غير مريحة وتحرم العازف من السيطرة الكاملة على الأداة إذ يضطر لسندها باليد اليسرى التي يعزف بها، على العكس من الطريقة الحديثة التي ابتكرها عازف الكمان والمؤلف الايطالي فرانشسكو جمنياني (1687 – 1762) حوالي سنة 1740، حيث يمسك العازف بالكمان بين ذقنه وكتفه بشكل محكم بمساعدة الوسادة الخشبية التي ابتكرها لوي سبور (1784 - 1859)، مما حرر اليد اليسرى تماماً ومكنّها من الحركة بحرية للقيام بأعقد حركات الأصابع دونما تحتاج اليد الى تثبيت ومسك الكمان. كل هذا أحدث نقلة هائلة في تقنية العزف على الكمان وبدأ العازفون المهرة بالظهور تدريجياً حتى ظهر كبار العازفين في القرن التاسع عشر مثل باغانيني ويواخيم وغيرهم.