TOP

جريدة المدى > عام > يـحـيـى الـشـيـخ .. الغايات.. أم غوايات الاشتباك والذات الأخرى

يـحـيـى الـشـيـخ .. الغايات.. أم غوايات الاشتباك والذات الأخرى

نشر في: 15 نوفمبر, 2020: 07:29 م

علي النجار

منذ أن وصلني كتاب الصديق الفنان يحيى الشيخ(الغايات) منه وأنا على ريبة من نفسي. هو يغويني بتصفحه بين وقت وآخر.

وأنا أرجئ الكتابة عنه، لكوني لم أجرب الكتابة عن هكذا منجز(كتابة مخطوط، أم كتابة سرية، أم مخطوط سري، هيروغليفي ، أو مرمز) فلا هو من حداثة زمننا، ولا هو من ما بعد حداثتها، أو حداثتها المستمرة كما يحلو للبعض تسميتها.

ومن أجل فك طلاسمه علينا معرفة صاحبه. هل هو سارد، شاعر، رسام. أم هو كل ذلك. مع علمي بأنه كل ذلك. وفوق ذلك هو صنيع زمنه. فأنا ومنذ معرفتي المبكرة بشخصه، وجدته مولع بالأدب وبالتزاماته الإنسانية سواء. إضافة الى إجادته لمهنته كرسام وكرافيكي بامتياز. لكن، يبدو أن رحلة حياته الاغترابية الطويلة ما بين شرقي وغربي أوروبا والبلدان العربية. وكأي جوال يلتقط زاد معرفته من بقاع وثقافات شتى وبعد امتلاء رجع الى جذره الجندري الأول، نابش تربة منشأه، هائماً بمدوناتها الشفاهية قبل المدونة، صائغاً كما مهنة أجداده، لكنه هنا وفي هذا الكتاب بالذات يصوغ تلك الكلمات البدائية الأولى المترسبة بأطيان قراها الأولى وبيوتها المفتوحة باحاتها للرياح الأربع.

حسناً هل كتاب الغايات(وهو كتاب فني) خلاصة رؤية يحيى الشيخ للوجود. وأي وجود.

من ضمن ما يقوله(عاشور الطويبي) في مقدمته لهذا الكتاب:

(يحيى الشيخ بارع في قطف الخط البدائي. لعله هو من حمل الحجر ووضع الخطوط. في سمائه تنهض الدوائر من أبراجها. يعلق السماء ما بين قرني ثور. أليس كل شيء يبدأ من النقطة وينتهي في نقطة).

بما يعني أن يحيى يتخلى عن مهارات، لمهارات أخرى. فليس من اليسير على الفنان ريادة عوالم مختلفة. بل أحيانا متناقضة في مصادر الهامها. ما بين معاينة لإنسانية الإنسان، وللطبيعة كواقعة ملموسة، وما بين النبش في إحفورات الكهوف الأولى لاستخلاص رهافة تلك الخطوط البدائية كمواز لتفكيك ثقافي مستجد، إن لم تكن بالتوازي ومدركاته الحسية المستجدة، لكن وبما انه استمد بعض جذرها من تلك المغاور السحيقة. فيبدو أن الحنين، كغواية، قاد خطواته لتلك السهوب المندرسة ليشتبك معها حفرياً من جديد. 

لنرجع لما ورد في القاموس العربي عن معنى الغاية أو الغايات:

(مدى، نهاية. راية، علم. فائدة مقصودة. طائر مرفرف. نهاية طاقتك أو فعلك. فلان بعيد الغاية(أي على صواب في الرأي). فائدة مقصودة. نهاية الأناقة. غاية الشيء. غاية المطاف. غاية الأمر: الوسيلة).

يتضح من هذه المعاني المشتركة أن ثم معنى ملتبس يندس ما بين الغاية والغواية. فالغاية هي بالأخير لا بد ان تكون غواية تقود يد وعين الفنان لعالم لريادة عالم سري غالباً ما عمرت تفاصيله مدوناته الأخيرة. ولو من باب التلميح أو الإشارة، أو حتى بعض التفاصيل الدالة. بما أنها انقياد، وليس توقف أو سكون. كذلك بما أن للمفردة اللغوية حافات متعددة، كما ذهب(دريدا). فالا ثبات في المعنى يلاحقها. مثلما هي تقودنا لفخ الغواية. وكما غايات(أو غوايات) فناننا يحيى الشيخ التي ينقاد إليها بتبصر واضح. والتي تذهب به مذهب الانقياد للهوى والتمادي فيه، دون الضلال والتيه في شعبه المظلمة. بوح فني مطروح للمعاينة بقراءاته المتعددة.

في مراجعة لهذا السفر المخطوط نكتشف أن شيئاً ما من مساحة الغايات المعلنة تبرز للنور. في الوقت الذي يقبع جزؤها الآخر في الظلمة. فهل هي غرائز منفلتة وأخرى جرى أحجامها. ربما يحيى لا يرى الأمر كذلك. هو يوازي ما بينهما في عمله الفني(الكتاب) وهو سلسلة رسوم. لكني أجد أن الأمر هنا لا يخلو من نزعة خليقية متوازنة. فالكارثة(وهي ظلام) إن غلبت عناصرها، سوف يتبعها الفناء. كما لو نظرنا لحرائق الغابات الطبيعية، لوجدنا أنه سرعان ما تنبثق الحياة من رمادها مجددة ما هو أصلاً قابل للتلف. لذلك أعتقد أن علينا النظر لرسوم يحيى الملغزة هذه بشقيها( ذات الخلفية السوداء، والبيضاء) المتعادلتين، كما تعاقب دورات الطبيعية: حياة .. موات. ليل .. نهار. وكما عواطفنا السلبية .. الإيجابية. فهو اذ يتعمق في تحليل مادة الانسان كأجساد حية وحتى الجماد عنده من منطلق أحيائي(ارواحي) يعلي من شأن الروح في تقمصها لهذه الأجساد الحية والجمادات ومكونات الطبيعة الأخرى. بحث فني كهذا لا بد له أن يستغل أدوات قابلة على سبر هكذا أغوار. كما هي الرسوم السرية الأولى، التي أعتقد ان يحيى لم يألو جهداً في دراستها ومعرفة أسرارها.

في منطقة رسوم يحيى الإحيائية هذه، ليس من ثبات أو سكونية في المعنى أو المغزى. هي وكما الكثير من الأعمال الفنية الملغزة، غالبا ما تراوغ مقاصدها التي اعتمدها الفنان. بما أنها تمنح نفسها لفضاء القراءة الواسعة. إن حزرنا لغز رسوم الكهوف العميقة المظلمة كما يمليه علينا الإدراك العقلي المتأخر. فمن يضمن لنا بأننا على صواب. لكن مع ذلك يبقى خيط من احتمال ما يربطنا بها. كما في رسوم يحيى التي اعتقدها نتاج إرثه الأسطوري بشقيه الشفاهي والمدون، البعيد الغور في التاريخ، والقريب زمنه. هو يشتغل كما تظهره هذه الرسوم عن يقينية، ونحن نستقبل عن يقين وبدونه. فالمتلقي غالبا ما يسقط ذاته على الموضوع. أي موضوع إن كان ملغزاً أو غير ذلك، بعيدا عن تدخلات كل البيانات المدونة برفقته. مما يمنح العمل الفني نكهة إضافية. 

لندرج المفردات التي عمرت هذه الرسوم مثل: الطير الهدهد الطاووس، الحيوان البري، الزواحف، الأمساخ، الزورق، القوس، السهم ...، الرموز والمدونات السحرية وظواهر الطبيعة. رسوم الأوفاق البدائية. هنا إنس وجن وشياطين مريشة تحيلنا لمحاولات الفنان للخروج على نمط الرسوم الطبيعية الخطية الى الأثر، سواء منه ما كان ما يعمر سطوح الفخاريات أو الجلود أو حفريات الكهوف والجدران. أنا أدرك أن هذه المقاربة ربما تكون ملتبسة. فهو صانعها وليس أحد غيره. لكنها من جهة أخرى أجدها رسوم مثقفة. ليس لصالح واقعيتها، بل لما تلبسته من سحر بدائي يحيلنا لتلك التي أوغل الرسام في حفر نفقه داخلها بحثا عما يلائم طروحات الغريزية العارفة التي هي بنت إرثنا البيئي الموغل في القدم. لكن ماذا يعني أن يفضل فنان يعاصرنا على ريادة هكذا منطقة، رغم انشغاله بها أحياناً سابقاً.

صحيح إن الحداثة الفنية الحالية مفتوحة على مناطق ذات مصادر شاسعة. لكن وكما يبدو فالغلبة فيها تشرك مفاصل التقدم التقني في الإنجازات الفردية الفنية الحالية. إذا، هل ما انجزه يحيى هنا هو من باب الاعتراض على التقدم التقني، أم على ما يخلفه هذا التقدم الذي لا يعرف له حدود من آثار سلبية على جوهر الروح الإنسانية لحد تشيئها والمنجز الرقمي جسداً رقمياً افتراضياً. 

في غايات يحيى الشيخ العديد من كمائن الغريزة تبرز كـما نحت في مفاصل (انثروبولوجيا) الوجود. هنا شوق وأرق يغطي مساحة تعمر رموزها، أو أشداق مخلوقاتها كما التفاف الأفعى على ضحية اصطادتها صدفة من العصر السابق لكل العصور، وحيث الفطنة مندسة بالتراب ومنجذبة للسماء وما يعمر ما بينهما. تلك الفطنة البدائية التي ابقت شعلة الجنس والخلق متقدة تراود المخلوقات في صحوها وفي أحلامها. أليس للخاطرة الوجودية البدائية من سحر يضاهي ما عداها ؟. هذا ما حاول يحيى القبض عليه ومداراته بفرشاته. وليس الرسمة أو الرقم لديه سوى رقيم معلق في سقف داره القديم درأ للشر الذي تنبأ به. ربما هذه النبوءة هي من أبعدت يحيى عن كل هذا اللغط الرقمي المعاصر الذي أفرغ الذات الإنسانية من جذوة ذاتها، هي التي دفعته للنكوص عما أوغلنا نحن فيه. 

هل نفذ يحيى رسومه هذه كنقش أو كمخطوطة. أنا اعتقدها الاثنين معا. فهي تحمل صفات النقش من جانب كون حروف بعضها تشبه نقش العملة القديمة. وحتى حدود رسوماتها. من جانب آخر، هي وكوثيقة مدونة ومرسومة يدويا على الورق، تبدو وكأنها مخطوطة كذلك لتضمنها نصوص كمتن وحاشية سواء. هي أيضا لا تختلف عن المخطوطات الأثرية لعهود المخطوطات الذهبية، الا بتقشفها اللوني(الأبيض والأسود) لتبلغ بلاغتها بأيسر السبل. فمعلوم ما للأبيض والأسود حتى في الصور الفوتوغرافية من وقع بصري يتجاوز الملونة باشتقاقاتها اللونية وضلالها الثانوية التي تأخذنا لمناطق جمالية بعيدة عن نوايا الفنان في إيصال رسالته الفنية التي تنتمي لزمننا، ولا تنتمي في نفس الوقت. ومن هنا اكتسبت سحرها.

من أقوال الصوفية، والتي نجد أن ثمة ملامح منها في هذه غواية هذه الغايات( إن الكون مجموعة من المظاهر يمكن تأمل الجوهر فيها تحت ظاهرة كل الأشكال) وكل الأشكال عند يحيى لا بد لها أن تصاغ كما شكل جوهري واحد ما دامت متوحدة في روحها. فما يشف منها لا بد أن ينعكس على مظهرها. مشروع كهذا لا بد له من مجالدة الفنان ليسبر غوره. يا ترى كم من الوقت أخذت من يحيى هذه المجالدة. حسب ما يخبرنا أنها ثلاثة أعوام. ثلاثة أعوام حفرا في منطقة إبداعية أثرية واحدة، ثلاثة أعوام بمزاج واحد، يبدو ان يحيى تدرب على ترويض نفسه بما ملك من إرادة ليخرج لنا هذا السفر(المخطوطة) بما تحمله من حيوات سرية نجد أن ثمة مقاربة لبعض من علاماتها للطوطم البدائي بمصادره الخليقية الإنسانية والحيوانية والنباتية والجمادية المتعددة، وبخلفيات اشاراتها أو ايحاءاتها السحرية التي تبقي تلك الأقوام محافظة على قوامها الفطري. 

هل هو إسقاط نفسي أن يتخلى الإنسان عن واقعه المعاش ويرود منطقة الأجداد الأولين وورثتهم الحالمون. ما دام الزمن معدوم في رسومه هذه. ليس سوى العلامة والإشارة المطمورة خلف جدار الواقع. وليس سوى الذكريات المحفورة في اللاوعي المنقولة شفاهاً، ومفارقات السذاجة الحكيمة. نعم للسذاجة غالباً حكمتها فهي أحياناً ما تكون هبة طبيعية تعيد للحياة توازنها. بعد كل تغرب الفنان يحيى، بعد انقطاعه عن جذره. عن اللغة التي هي الموطن. في زمن عولمة حتى الأحلام الأولى. فهل ينفع أن نقول بأننا كائنات معولمة قسراً. وهل ثمة عولمة اختيارية بمحض إرادتنا. لكني أعتقد أنه كانت في الأزمنة الساحقة عولمة من نوع ما للسذاجة، ولنسميها الفطرة التي كانت سائدة قبل يقظة المدارك وتصاعد مستوياتها. علامات الفطرة هي التي سحرت يحيى في أعوامه الثلاثة التي أشرنا اليها، لينتج لنا علاماتها المخطوطة، أو مثلما يسميها(الغايات). غاياته التي اندست بين ثناياها حيواتها خطوط مستلة من ملامح ومدونات الآباء الأوائل، الأمهات والعشاق، من الوعي واللاوعي، ومن الأحلام المندرسة، والأحلام المدسوسة لأولئك الناس الأوائل الذين ضيع أثارهم لاحقاً. فهل صنع يحيى مخطوطته كتعويض عن زمن فقده. أم هو يحاول استعادته بالوسيلة التي يجيدها. أليس(الحرز) وهو بعض من مدوناته الفنية في هذه الخطاطة، بآياته وملائكته وأبالسته وبجداول أرقامه السحرية من ينفذ من فرجة التاريخ ليعيد الغائب والمخطوف ، ويفعل الخصوبة والرزق والأمل ؟. أليست هذه قناعة ملغزة ؟. كما قناعة فنان بالنأي عن عالم الكوارث الحالي، عن فقدان الأمل الذي لازمه أعوام التجوال الطويلة. ليظهر لنا كما شامان عصر الهنود الحمر. وكمتنبئ حالم بعالم خالي من أوبئته. 

عن الأوفاق، وهي جزئية من مخطوطة يحيى، حيث اشتغل عليها أيضاً المرحوم شاكر حسن آل سعيد في بعض من رسومه ومنها الحبرية الورقية والتي كان مؤمناً بقدرتها السحرية على شخصه وحسب ما خبرته عنه شخصياً. لكنه لم يكرس منجزه لها. بل كان همه الاتيان بلوحة حداثوية تسعى لتمجيد تراكم الأثر البيئي المحيطي. بالوقت الذي أوردها يحيى كخارطة مفتوحة الاتجاهات تشاطر ارقامها ملائكة الأرواح، في محاولة منه لتثقيف العلامة من خلال اغنائها بتفاصيل مرسومة كعلامات مضافة، بالوقت الذي لم ينس فيه وظيفته كفنان ومدون حتى في هذه الرسوم التي تقرب من المائتي رسم احفوري. فهو أولا وأخيرا، وكما يبدو هنا رسام كرافيكي(احفوري) وهذا المخطوط دالته الكبرى. 

إذا كان(جوتي) قد افترض بأن(البداية كانت الفعل) فان(هانز فون بولو) فضل بحق أن(البداية كانت الإيقاع). وهذا ما تظهره رسوم يحيى الموغلة في ايقاعاتها تسطيراً وتوريقاً، كما وظيفة كتابها الفني. وهل الكتاب الفني ألا تسطير إيقاعي لنوايا أو غايات الفنان. في هذا الكتاب المخطوطة الفني، لا يهمني الى اية جهة تقود خطوات إيقاعاته. ما دامت جزئياته اجاسد واشارت تأخذنا بسلاسة ملغزة لأغوار دواخلنا. من هنا اعتقد أن يحيى الشيخ حقق مسعاه لتوصيل رسالته السرية للعلن بفطنة أخذت منه وقتاً كثيراً. ما ساعده على ذلك، كونه فناناً تشكيلياً هو سارد وشاعر في نفس الوقت متمكن من أدوات بوحه بنفس المستوى، كما تظهره هذه المدونة أو المخطوطة أو الكتاب الفني السحري(الغايات)!.

مالمو .. السويد

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

كتائب القسام تعلن "استشهاد" قائدها محمد الضيف

ترامب: لم ينج أحد من حادث اصطدام المروحية وطائرة الركاب قرب مطار ريغان

"الاتفاق غائب".. تعديل الموازنة يدفع الى انقسام نيابي

برشلونة يعلن رسميا تجديد عقد بيدري حتى 2030

مكتب السيستاني: يوم غد الجمعة هو الأول من شهر شعبان

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram