ستار كاووش
منذ أيامي الأولى في هولندا بدت لي الأمور واضحة على حقيقتها، حيث لم تكن الحياة سهلة، ولا الطريق معبداً بالزهور، أنا الغريب الذي لا يحمل معه غير موهبته وحقيبة صغيرة فيها بعض الملابس، وفي جيبي بضعة فلورينات تُعَدْ على أصابع اليد الواحدة، يصاحب ذلك إصرار على تعلم اللغة والمضي قدماً في الحياة،
لذا كان عليًّ ان ارتب أمور حياتي بعد أن حصلت بشق الأنفس على مرسم صغير، ومع العوز والصعوبات حاولتُ جاهداً أن أعيش وأسدد كل متطلبات حياتي من خلال الرسم فقط رغم قساوة وصعوبة هذا الخيار. وهكذا كان الرسم وبقي هو خياري الوحيد للمضي في حياتي، لكن هذه الحياة لا تَتَوقف مشاكلها من خلال رومانسية الحصول على مرسم أو عن طريق الحلول الصغيرة التي تأتي من هنا وهناك. مع ذلك لم تخلُ تلك الأيام من بعض المفارقات والأحداث الطريفة التي كنت أحاول استثمارها بمرح وانفتاح دون تبرّم أو تعقيد.
في أحد تلك الأيام تعطلت غسالة الملابس التي حصلتُ عليها من صديقي ياكوب، فوقفتُ أمامها متسائلاً على طريقة الشاعر كافافي (والآن ماذا سأفعل بدون....غسالة؟)، عليَّ البحث عن واحدة أخرى، لكن الأسعار كانت مرتفعة جداً مقارنة بما أملكه من نقود. ولتسهيل الأمر، قلتُ لنفسي أن الحصول على الغسالة ليس أصعب من الحصول على الجنسية، وربما سيأتي شخص مفاجئ ويشتري واحدة من هذه اللوحات التي تملأ المرسم، عندها ستتبدد المشكلة الى الأبد.
وأنا منشغل بالتفكير بهذه الدوامة، وقع نظري على شيء طريف في جريدة الإعلانات التي تصل عادة مجاناً مع البريد، واستوقفني فجأة إعلان لافت وغريب جداً، بل يمكنني القول بأنه أغرب أعلان قرأته في حياتي. ولم تكن صياغة هذا الإعلان المتقنة وهدفه الواضح ولا استقراره في مكان رائع أعلى الصفحة هو ما أثار إستغرابي ودهشتي، بل الطريقة المبتكرة والطريفة التي أعلنوا بها عن السلعة المقصودة، والأدهى من ذلك أن الإعلان كان عن غسالة ملابس جميلة تصدرت صورتها الإعلان بوضوح! يقول الإعلان (يمكنك الحصول على هذه الغسالة الجميلة مجاناً إن استطعت الحضور الى متجر كايك شوب والجلوس يوماً كاملاً فوق سطح هذه الغسالة التي ستوضع بمحاذاة المتجر، لا يسمح لك بالنزول منها قبل مرور ١٢ ساعة، وحين تُكمل هذه المهمة السهلة، سنوصل الغسالة الى عنوان بيتك مجاناً). وهنا تمتمتُ مع نفسي (ما أجمل هذه ال...مجاناً) لأكمل بعدها (وها هي الغسالة التي كنت انتظرها جاءت بنفسها، وفوق كل هذا، دون ثمن).
في صباح اليوم التالي هيئتُ مجموعة من الفطائر مع علبة عصير وتفاحة، ووضعت هذه الأشياء في حقيبتي الصغيرة وانطلقت بدراجتي الهوائية نحو المتجر الذي يقع في شارع أدريانا بمدينة هوخفين. وهناك كانت بانتظاري الصدمة التي لا أريد لها أن تحدث، فالمتجر كان مفتوحاً والغسالة موجودة بمحاذاة الباب، ولم ينقص الموضوع أي شيء، بالعكس كان هناك شيئاً زائداً، وهو شاب أشقر ممتلئ الجسم يجلس على الغسالة التي كنت أحلم بالحصول عليها، فاستسلمت على مضض لوقع هذا الخبر السيئ واقتربت من غريمي الذي أخذ مكانه بفخر وشعور بالانتصار كونه قد سبق كل محتاجي المدينة الى ذلك، وفتحتُ حقيبتي قائلاً له (هل أنت بحاجة الى شطيرة جبن أو شيء للشرب؟) فأجابني بامتنان ممزوجاً بالثقة (شكراً لك، سيجلب لي اخي الصغير بعض الطعام) ثم أردف بصوت منخفض وهو يزم شفتيه (مشكلتي هي أني بحاجة للذهاب الى التواليت، لم أحسب حساب هذا الأمر) فإلتفتُّ نحوه قائلاً وأنا أهمُّ بمغادرة المكان (لا أستطيع مساعدتك في هذا الأمر مع الأسف) ثم أكملتُ ضاحكاً من بعيد (ان ذهبت الى التواليت فسأجلس مكانك) وركبت دراجتي من جديد عائداً أدراجي.
وصلتُ المرسم، وانشغلت بلوحة جديدة، ليتصل بي صديقي هينك الذي يعرف المشكلة، قائلاً (ستار، وجدت غسالة جيدة عند أحد الفلاحين الذين أعرفهم، يريد بيعها لأنه حصل على واحدة جديدة من ابنه) ثم أردفَ (بكل الأحوال هي تعمل بشكل رائع حسب قوله، ويطلب مائة يورو ثمناً لها)، وافقت مباشرة على هذا العرض المناسب لميزانيتي. وفي نهاية الظهيرة وصل هينك بشاحنة أخيه رودي الذي كان بصحبته، ولم تمض لحظات إلا وهما يصعدان السلم، يحملان الغسالة المنتظرة. بعد قليل وضعت على الطاولة ثلاث قطع من كعك التفاح وانشغلتُ بتحضير القهوة، بينما عَيناي ترمقان الغسالة كمن يتأمل حبيبة كانت غائبة.