لطفية الدليمي
لم تكن الكتابة المقالية في حقل الثقافة غريبة عن اهتماماتي منذ البداية ؛ لكنّ الكتابة المقالية الأسبوعية المنتظمة اخترقت حياتي وصارت نشاطاً محبباً لي منذ نحو عقدين من الزمان ، وماعمودي هذا الذي واظبتُ على كتابته في المدى منذ إحدى عشرة سنة سوى مثال على هذا الالتزام الجاد والممتع الذي يفتح لي سبل التواصل المباشرة مع القراء .
الكتابة المقالية ( وبخاصة في الحقل الثقافي ) ليست نشاطاً روتينياً يمكن أداؤه بيسر ، ولولا شغف الكاتب وتمرسه لما أمكنه المواصلة وتقديم موضوعات – يحرص أن تكون حيوية - على مدى سنوات .
ولكن ، أليس من يكتبُ أعمدة يومية ضمن السياق المتبع كتقليد ثابت في معظم الصحف يقعُ تحت ضغط أكبر لايمكن مقارنته مع الزمن المتاح خلال أسبوع لكتابة مقالة ثقافية بخمسمائة كلمة ؟ أقول بوضوح نعم ، إن الكتابة اليومية تمثل عبئا متواصلا على كاتبها للكتابة عن انشغالات اجتماعية وسياسية ومعضلات معيشية آنية ، غير أن اختيار الموضوعة الثقافية القادرة على تقديم الفكرة الجديدة التي تلهم القارئ وتجذبه نحو فضاء الاشتغالات الثقافية وماتستدعيه من صبر وقدرة على بلوغ ( الأوتار الحساسة ) في عقل القارئ ، يتطلب ستراتيجية للكتابة الثقافية مغايرة لطريقة المخاطبة اليومية للقراء وماتتصدى له من الشأن اليومي ومتابعة المستجدات والوقائع التي تمثل أهمية راهنة لدى القراء ، وبخاصة فيما يتعلق بالشأن السياسي ومنعكساته الحتمية على الإقتصاد ونمط العيش وقضايا الخدمات والأمن الاجتماعي .
يعرف معظم الكتّاب متطلبات الكتابة الصحفية التي تخاطب فئة واسعة من القراء ، فهي تشترط التبسّط وبراعة تمرير المعلومة بأقلّ قدر من الفذلكات المفاهيمية واللغوية من غير التخلي عن القيمة الفكرية التي تكشف عن موقف الكاتب ورسالته الموجهة للقراء ، و يستلزم هذا إقامة موازنة دقيقة بين الرصانة الفكرية ومتطلبات مخاطبة الجمهور العام .
وأرى أن من اسباب نجاح الأعمدة الصحافية - والثقافية منها بخاصة - الابتعاد عن الكتابات التقليدية المتداولة والحرص على تمرير حزمة من الأفكار والرؤى إلى القارئ ، تتوخى الجدّة والحداثة والتناغم مع إيقاع العصر حتى لو كانت المادة المكتوبة تتخذ صفة الكتابة الناقدة للسائد في هذا العصر ، ولابد لكاتب المقالة الثقافية أن يعمل على إرساء قيم جديدة في الكتابة الثقافية، عبر مقاربة ميسّرة يمزج فيها بين مستجدات الأدب والفكر والعلوم والفلسفة ، و بذا يتخطى المفهوم الراكد الذي ينظر فيه البعض إلى فكرة الثقافة كونها أدبا وفنونا وتنظيرات نقدية حسب .
يلاحظ معظمنا أن هناك انكفاءً وتراجعاً في الصحافة والمجلات الثقافية ، وبعض هذا الإنكفاء يمكن إحالته إلى مفاعيل الثورة الرقمية التي أتاحت المنشورات الثقافية بالمجان لمن يمتلك جهاز حاسوب ( أو جهازاً لوحياً أو حتى هاتفاً ذكياً ) مرتبطاً بوصلة إنترنت عاملة ؛ لكن لامفر من إعادة التفكّر الشامل بوسائل النشر الثقافي الرقمي المستجدّة ومعرفة الوسائل الأكثر جدوى في مقاربة الموضوعات الثقافية بلغة رقيقة قريبة من الذائقة العامة وبعيداً عن الرطانات اللغوية والرؤى العتيقة.
تكمن المقايسة الضابطة للمقالة الثقافية - كما أرى - في كونها أقلّ من أطروحة ثقافية وأكبر من هسهسة شخصية أو بوح يماثل منشورات مواقع التواصل ، ولايعود السبب في هذه المقايسة إلى قصر الحيّز المتاح للمقالة بقدر مايتعلّق بأهمية إثارة انتباه القارئ المختنق في متاهات الحياة الشائكة وضغوطها ،والاجتهاد في تمرير بعض خبرات مفيدة له في حيز مقالة بخمسمائة كلمة لاأكثر.