TOP

جريدة المدى > عام > ميخائيل آنجلو.. الفنان العظيم .. ازدرى قواعد العصور الوسطى

ميخائيل آنجلو.. الفنان العظيم .. ازدرى قواعد العصور الوسطى

نشر في: 29 نوفمبر, 2020: 08:00 م

روما: موسى الخميسي

في قاعات قصر "الدوقية" التاريخي العريق، وسط مدينة جنوى في الشمال الإيطالي، افتتح معرض للفنان الخالد ميخائيل آنجلو بوناروتي ( 1475- 1564) تحت عنوان " ميخائيل آنجلو... الفنان العظيم"، يضم نحو 150 قطعة ما بين منحوتات وأعمال فنية وتخطيطات ورسائل، وقصائد شعرية كتبها الفنان .

و يستمرالمعرض مفتوحا للجمهور، حتى منتصف شهر شباط ، من السنة الجديدة. وتضم الأعمال المعروضة رأس تمثال "بروتس" الذي تم استعارته من متحف "كولونا " في روما هذا الذي يعكس صراعات السلطة في فلورنسا، كما يضم

المعرض الجديد أعمال مهمة جدا له، لاسيما منحوتتين، أولهما لـ "مريم العذراء على السلم " الذي نفذه أنجلو عام 1490، وكذلك تمثال المسيح الفادي (1514 - 1516) المحفوظ حاليا في كنيسة سان فينتشنزو مارتير في مدينة "باسانو رومانو".

إن عبقرية عصر النهضة الإيطالية وعظمتها بلغت ذروتها في شخصية هذا الفنان الخالد الذي يعتبر الممثل النمطي لروح هذا العصر، حتى بات رمزا لأسطورة الفن والكمال والإبداع. يكشف العصر الذي ولد فيه ورسم مصيره باتجاه الفن، تضافرت الظروف والقيم التاريخية في صقل موهبته وتفتح عبقريته، كما يكشف عن تعاظم أزمات المجتمع الفلورنسي في ظل حكم أسرة(آل مديتشي) ، حيث برزت آراء المصلح "سافونارولا" الذي طالب بإصلاح الكنيسة. لقد كانت تلك الحقبة التاريخية التي عاشتها إمارة فلورنسا متميزة تاريخياً، جعلتها مدينة أشبه بالمعجزة وجعلت مواطنيها يدركون طبيعة الازدهار الذي عم مجالات الفن والعلم والثقافة .

عاش ميخائيل آنجلو في كنف عائلة تمتد الى أصول فلورنسية عريقة، إلا أن تقلص ثروتها حتى جيل والده لودفيكو، جعلها تعيش حياة متقشفة أقرب الى الفقر. وكان والده رجلاً متكبراً قاسياً، مفعماً بالثراء لنفسه وغير مبال باحتياجات وأحلام عائلته. أما والدته فرانشيسكا ديل سيرا فقد كانت شخصية باهتة ضعيفة، توفيت في عمر مبكر بعدما أنجبت خمسة أبناء، وبسبب مرضها دفعت العائلة بميخائيل للإقامة مع مرضعة في إحدى المدن القريبة من فلورنسا، حيث كان زوج هذه المرضعة يعمل في مقلع الأحجار في مدينة كارارا، فاظهر ميخائيل محبته للحجر وتعلم الحفر بالمطرقة والأزميل قبل تعلمه القراءة والكتابة. وحينما بلغ العاشرة من عمره عاد الى كنف والده الذي تزوج للمرة الثانية، ليعيش في بيت العائلة التي ورثته من الأجداد( حالياً متحف دائم للفنان).

يذكر الفنان والناقد والمؤرخ "فازاري" الذي أصبح الصديق المقرب من ميخائيل أكثر من حادثة تشير الى العبقرية المبكرة في إنجازات الشاب ميخائيل وهو لا يزال تلميذاً في ورشة الفنان جيرالاندايو، باختلافه في الرؤية ، وقوة وأصالة أعماله، إضافة الى تمتعه بعقلية مستقلة، وطموح نحو الابتكار والتجديد، وهو ما انعكس إيجابياً على تكريس مسارات حياته الفنية لاحقاً، إذ لم يمض عام واحد على وجوده في الورشة الفنية، حتى استطاع العثور على فرصة للارتقاء بفنه. فقد عمل في مدرسة البحث التي أمر بإنشائها حاكم فلورنسا لورينسو ميدتشي الملقب بـ "الرائع"، وقام بتنفيذ عدد من الأعمال الفنية، وكان أول عمل فني مستقل ينجزه تحت اسم" مريم العذراء على السلم" وكان عمره 17 عاماً، حيث اصطف من خلال هذا العمل الذي اتسم ببراعة حرفية بالتعامل مع كتلة الرخام بانسجام وتصميم لا يليق إلا بفنان كبير يمتلك زمام أدواته. وانتقل بعدها لتنفيذ عمله النحتي الثاني الشهير" معركة القنطور" ليكون هذا العمل بمثابة مقدمة لأعمال عظيمة وضعته بالقمة.

تميزت أعماله النحتية بأسلوب فني أكثر حرية بالتعامل من خلال إصراره على أن يقدم منحوتاته بصورة غير مكتملة في عملية التشذيب النهائي والصقل، كما اعتاد غيره من فناني عصر النهضة، والسبب في ذلك يعود لرغبته في إظهار القوة من خلال الخشونة التي تعطي انطباعاً على ديناميكية العمل النحتي وقوته.

كان في جميع أعماله النحتية يحرر شخوص تماثيله من قطع الرخام، من خلال مهاراته في ضربات الأزميل والمطرقة التي كانت تكسر الرخام بالقدرة التي يرغب فيها من دون أي خطأ يمكن أن يلحق ضرراً بكامل العمل، وأعطت دقته في العمل للرخام من خلال المنحنيات للملابس المتدلية، ليونة ونعومة بعثت به طاقة حياتية متميزة.

أعماله النحتية، تمثل عمق المحاكاة للأشكال الجميلة التي استقاها من الطبيعة والإنسان، حيث أصبحت دراسة تشريح أعضاء الجسم الإنساني وحركاته المنظورة، أشياء لا بد منها للفنان، ذلك لأن هذا الفنان أدرك بأن الإنتاج الفني وخاصة في تلك الفترة التاريخية التي تعد أعظم فترات فن الرسم في تاريخ الفن الغربي، لم يعد عملية نسخ آلي لقوالب معينة ومحددة تفرضها السلطات الكنسية والاسر الحاكمة لتظهر للناس أن أفرادها محسنون، وإنما أصبح تعبيراً حراً عن عقلية الفنان الذي رأى في اكتمال سيادة الإنسان وتحققها الحسي وقوتها، الأساس الذي سار عليه بعمله وحياته. كتب يقول في إحدى رسائله لأخيه (الجميع يباعون ويشترون في روما، وكل مركز، بل حتى دم المسيح يباع من اجل النقود). 

لدى احتلال الفرنسيين لإمارة فلورنسا، هرب ميخائيل آنجلو مع صديقين له الى إمارة البندقية التي التزمت الحياد مع فرنسا في ذلك الحين، إلا أنه سرعان ما غادرها متوجها الى بولونيا التي احتضنه فيها أحد نبلائها حيث كلف بإنجاز ضريح القديس دومنيكو مؤسس رهبانية الدومونيكان، فأنجز واحداً من أروع أعماله التي تمثل قديسين مع ملاك راكع يحمل شمعة بإحدى يديه. إلا أنه وبعد اندحار الفرنسيين وسيادة الحكم الديمقراطي في فلورنسا، عاد إليها وهو في العشرين من عمره ليكلف بنحت تمثال يحيى المعمدان، ثم أعقبه بتمثاله " كيوبيد النائم" الذي بيع الى أحد كرادلة روما، وقام هذا الكاردينال باستدعائه الى روما ليبقى فيها خمس سنوات متواصلة أنجز تمثاله الرائع" الرحمة" الذي يمثل المسيح وهو مسجى بين يدين والدته العذراء بقياس الإنسان العادي، وليكون هذا العمل الذي انجزه خلال عام كامل أهم وأفضل ما قدم نحتاً على الرخام في روما آنذاك. ونفذ ميخائيل آنجلو المنحوتة على قطعة من الرخام مستطيل الشكل جلبه من مقالع مدينة "كارارا" وبارتفاع أقل من العرض ليكون النحت على شكل هرمي، ابتعد في هذا النحت عن الإطار التقليدي لإعماله وأعمال غيره من الفنانين، وبدأ فيه منقاداً بمشاعره وبفوضى أحاسيسه العميقة، فالمسيح المسجى بحضن أمه ، جسد مسترخي تدل عروقه على فيض الحياة وكأنه في حالة نوم، أما والدته التي هزها الحزن والأسى، فتبدو امرأة شابة أصغر سناً من أبنها، إلا أنها تبدو كبيرة بحجمها في إشارة كبرها في الحياة .

وأنجز تمثال النبي موسى عليه السلام ليخلق منه رمزاً لشخصية البابا يوليوس الملقب بالرهيب وكأنه تجسيد لقوى الطبيعة القوية، إذ تكاد قسمات وجهه تنطق بالوصايا العشر، وتحكي جبروته وقوته، فقد كشف ميخائيل آنجلو على قدرة خيالية في تطويع الرخام الى الحد الذي يبدو وكأنه بهذا التمثال الفخم ينطق بتعبيرية في كل ثنايا الثياب وعضلات الذراعين المفتولة والعقلانية المسيطرة على ملامح الوجه، واللحية المتدلية.

وحين عودته الى فلورنسا بعد أن أصبحت جمهورية ومضى فنانوها يجسدون وثبتهم في أعمال فنية ذات صفات وطنية بطولية، وجد إمامه قطعة من الرخام بارتفاع 18 قدماً وزنة عدة أطنان، ليبدأ العمل بتمثاله الخالد" داود" الذي توج به إنجازات عصر النهضة، وتجاوز به كل المراحل التقليدية في العمل النحتي.أراد به أن يكون ملكية عامة للناس وأن يوضع في أحد ميدان المدينة كرمز لانتصار الإنسان . والتمثال عبارة عن صرح فخم لجسم شاب قوي يمتلك حيوية ونضوج، أنجزه على غرار الفن الإغريقي.

عالج في تخطيطاته العديد من الموضوعات الدينية التي استوحاها من الكتاب المقدس كما هو الحال عند أغلب الفنانين في تلك الفترة، إلا أنه عالج هذه الموضوعات بروح إنسانية دنيوية جاعلاً الرغبة في الكمال الفني هي الأساس، ثم يأتي من بعدها التعبير الديني الذي يقف على هامشها فمهمته كفنان ثائر تمثلت في رفع قبضة اللاهوت عن الفن كلية والإطاحة بالقيود اللاهوتية التي كانت سائدة ومفروضة من قبل الكنيسة. فالتخطيطات الكثيرة التي نفذها والتي صب كل جهده لفهم الجسد الإنساني، حيث اعتبر من أبرز ممثلي الرؤية الخارجية للجسد الإنساني، حافظ من خلالها على ملامح الجسد الخارجية، وأبقى على مميزاته الأساسية وعلى صفاته، واستطاع بفضل أعماله هذه ذات الطابع الغنائي الشاعري، أن يمهد الطريق للتحولات الفنية في فن التخطيط لكونه القاعدة الأساسية للفنان التشكيلي.

حركة حرة اللقطة المركزة لحركة الانسان تحمل تركيزاً كاملاً على التعبير المشبع بالأحساس الكامل بالعمق، حيث تمضي الحركة حرة في كل اتجاه عبر خط الرؤية أو بعيداً من هذه التخطيطات صغيرة الحجم والتي نفذت على ورق ملون، تتمتع بأناقة كبيرة، ولونت بألوان فقيرة لا تتعدى قلم الرصاص أو الحبر القهوائي المحروق والذي كان يستخلصه بنفسه من بعض الأعشاب البرية. لقد وضع تخطيطاته في مساحات محدودة توحي بالتنبؤ والصلابة، فالخطوط بالتواءاتها واستقامتها الصافية تتميز بحيوية تكاد تكون متفردة، وكأن كل خط منها يلف بحركته كل الكتلة ليصبح في النهاية الرمز والمحرك الأساسي لدى الفنان الذي صاغ قاموس المفردات التشكيلية لفن التخطيط. الفنان مايكل انجلو فهم الجسد البشري بطريقة أصبح فيها هذا الجسد وكأنه حركة واحدة شاملة، فتفاصيل رسم الرأس ودقة الذراع والكتف المتصلب وامتداد الساق، وسيولة القدم ورصانتها، والتواءات الجسد المنفلت دائماً بحركة عصبية، تذوب جميعها في تداخل الظل والنغم، وكأنها تحكي عملية اكتمال وسيادة الإنسان في تحققها الحسي وقوتها على تحريك المشاهد. لقد استهوته الغريزة، للحد الذي طغى ذلك على كل أعماله النحتية ولوحاته الجدارية التي تمثلت برائعته في سقف المصلى لكنيسة سيستينا والتي قسمها الى قسمين يفصل بينهما ستار، القسم الأول تحكي قصة الخلق، بينما القسم المخصص للجمهور تحكي قصة الإنسان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram