أحمد خلف
يجد عبد الحق مؤلف القصص والحكايات ، كل شيء من حوله غير جدير بالرصد والكتابة كل شيء حي ، لقد اعتاد أن ينهض في الصباح الباكر ليعمل بجد وبدون توان ،
إنه في الاربعين من عمره ولديه عزم شديد لكي يبرز على أقرانه ، ولكن كثيراً ما فاجأته الحياة بعوامل قاهرة ، لذا يبدو له العالم سكونياً مملاً ولا يمكن أن يتجانس معه ، لم يكن يفعل شيئاً في عزلته المرهقة هذه ، عزلة من نوع خاص كما يسميها فقد ظل وحيداً باختياره ،
قرر أن يعيش حياته مثلما يريد ، لم يكن شخصية ثقيلة الظل بين رفاقه إنما كان لهم همومهم الخاصة ، التي لا يفهمها أو لا يعرف كيف يتألف معها ، دارت عيناه في أرجاء الصالة ، التي جعل منها مستقراً له ولكتبه وجهاز الحاسوب حديث الصنع ، المشترى من أفضل محلات البيع الحديثة ، عاوده صوت الموسيقى الخفية هادئاً وخافتاً متململاً كأنه يأتيه من فضاء مسحور، هو صوت ظل يصغي إليه بين حين وآخر ومنذ أيام قلائل ، رغم أنه لم يشغل ذهنه بالصوت إلا أنه تيقن من الزيارة المفاجأة تأتيه بين حين وآخر ، نظر الى كدس أوراقه ناصعة البياض ، امتدت يده تقلب عدداً من الكتب واغراه كتاب الأساطير وكتاب آخر عن الحب وثالث عن اللصوص ، تأمل الكتب الثلاثة ، انزلها من رف المكتبة ، تصفحها الواحد إثر الآخر تأمل كتاب الحب لبعض الوقت ثم اتجه الى الكتاب الآخر ، هل تصلح هذه العناوين أن تشكّل له قصة يريد أن يكتب فيها كل ماهو خارج سياق تفكيره او رغباته ويبهر قراءه لكي يتيقن من حيازته للفن الذي قيل له إنه أصعب الفنون ، قصة حب يصل في بعض جوانبها حد الأساطير ، ما تحمله من غراميات لا تتفق وعقل الإنسان في زماننا هذا ، زمن يتحزم فيه اللصوص لسرقة كل شيء ثمين وباهر ، كان هذا همّه الوحيد والذي أقض مضجعه تلك الليلة ، التي رسم خلالها خطته الحاسمة لكتابة قصته ، الأصوات لا تكف تلاحقه دون إرهاق له أو أذى مباشر ، والحق كان الصوت يغريه على الإصغاء أكثر .
فكر: ـــــ ينبغي أن تكون قصة لا مثيل لها من جوانب عديدة .
مرة أخرى قلب الكتب التي أخذها بين يديه بحرص وعناية ، كتاب الأساطير ، حالما فتح الكتاب واجهته صورة ملكة سومرية وعلى رأسها تاج من الذهب الخالص ، مرصع بالكثير من الأحجار الكريمة ، تاج الملوك الغابرين أين أصبحوا اليوم ؟ بدا وجهها نضراً كتفاحة ناضجة ، كيف له أن يقظم التفاحة وعيناها ( عينا الملكة ) تجوسان المخفي والعلن . ساحرتان براقتان كألتماع الفضة النقية ؟ كان المساء في بدايته لما سمع طرقات على الباب الخارجي للبيت ، امتعض من دوي الضربات المستمر ، نهض باتجاه طارق الباب ، كان قد وضع يده الكبيرة والطويلة الأصابع على صفحة ( 21 ) من كتاب الأساطير ، حدّد الأسطر التي حطت عليها عيناه ، وكانت الملكة ساحرة الجمال ممتلئة الجسد والأكتاف ، عجيزتها تهتز كلما سارت في أروقة القصر ، من الواضح إن الخدم لا يجرؤون على النظر الى جسد الملكة ، بل لا يملكون الشجاعة على التحديق بوجوه خادماتها ووصيفاتها ، لأنهم يعلمون النتيجة والعقاب الذي يمكن أن يطالهم ، لا لشيء ملموس بل لأنهم تركوا عيونهم تمشط أجساد النساء ، وهذا وحده يعاقب عليه الملك صاحب القصر المنيف ، لكن من حق الملكة أن تتأمل عبيدها وخدمها ووصيفاتها بدون استثناء ، تنظر إليهم ومن هو يستحق النظر ومن يعاقب لسبب مضى ؟ من هو صاحب القامة الممشوقة والجسد الفتي المرن المطواع ، الذي يلبي الحاجة في الحال وكانت على ما تملكه من إغراء مثير ، إلا أنها بدت ذابلة بعض الشيء ، خشيتها تتمثل في أن يهجرها الملك ويتحول نحو جارية أخرى ، كانت أنفاسها الحرّى تلاحق أحد خدمها الخاصين لها ، لقد ألحقه الملك بخدمها ووصيفاتها والحقيقة لا تستطيع الملكة أن تغض النظر ، عن قامة خادمها العملاق عبد الله ذو البشرة السمراء فاتحة اللون ، أشارت عليه بصوت هامس صوت الملكات الشبقات ، والنساء العاجزات عن دفع الزوج لأشباع غريزتهن ، ردّدت مع نفسها : ـــــ ياللملكات العاهرات الحمقاوات.
ولما لم يسمعها الخادم البليد صاحت به : عبد الله.
هرول اليها مأخوذاً بسحر الصوت وجبروت صاحبته .
عندئذ جرى لها كل ماتريده وتنتظره في ذلك المساء النيساني البهي . نظرت الى العبد الذي اسمه عبد الله وتأملته عن كثب ، ابتسمت لرغبتها الممضة ، تعرف أنها لن تترك لمتعتها أن تذلها بل هي التي ينبغي أن تتحكم بكل ما يتطلبه الجسد . انتبه عبد الحق الى أنه نسي الطارق وانشغل في كتاب الأساطير ، اندفع الى هناك ، امتدت يده الطويلة الى مزلاج الباب وسحبه ، لم يكن ثمة أحد في الخارج ، أطل برأسه على الزقاق الطويل شبه المعتم ، لم يكن ثمة مايثير ريبته ، ليس ثمة حركة هناك تجعله يواصل مراقبته للزقاق ، اغضبه ذلك وشعر أنه مجرد أبله ومغفل يسخر منه بعض جيرانه ، مع هذا وجد نفسه تبتسم بصمت ، مالبث أن اطلق ضحكة مدوية لأنه استجاب لصوت افترضه طرقات على باب بيته ، أقرّ مع نفسه بجدية صريحة أن الطرقات ليست جديدة بل سبق له أن سمعها من قبل ولأكثر من مرة خلال هذا الأسبوع الفائت . إذاً لا بد من مراقبة من يسخر منه في المساء عادة وقبل أن يسود الظلام أرجاء المعمورة . عمل لنفسه سندويشاً وقدحاً من الشاي وردّد مع نفسه : ـــــ اليوم أهب نفسي للفن الصعب ، ترى من قال إن مؤلفي القصص يقلدون الله في خلقه للبشر ، وهم يصنعون لنا شخوصاً على الورق بعضهما كأنه تشكّل من لحم ودم !!
داهمه صوت الموسيقى ثانية جاءته ناعمة رقيقة وشجية ،ظل يرقبها لثلاثة أيام ، تأتيه الموسيقى لينة طيعة قبل أن يخلد الى النوم وكلما انغمس في كتابته يشعر أنه يقترب من المرام ، أراد الانتقام من الملوك الجبابرة لكنه يعلم أي منزلق سيسلك لو تورط في كشف المخفي والمستور . للبيوت أسرارها وللمنازل حرماتها ، ضحك من هذه الحكمة التي اسماها : البليدة . كيف تتجرأ على القول إن الملكة زبرجد سلمت نفسها الى خادمها المطيع عبد الله ؟ وقد لبى الطلب ونفذ الأمر في الحال ؟ أليس في هذا ظلم وجور لا معنى له ؟ استمر في تقليبه لكتاب الأساطير الذي أدهشه بما فيه من حكايات وقصص وأشعار وحِكم ، كلها دلّت على معرفة سابقة بما جرى وما ينبغي أن يكون .
أرجأ المؤلف ما حدث بين الملكة زبرجد وخادمها عبد الله الى صفحة قادمة ، من عمله القصصي هذا وانشغل في صفحة جديدة أراد من خلالها أن يستذوق طعم التشفي باللصوص ، الذين هجموا على مائدة أهل الدار العامرة بأطيب الطعام والمأكولات ، حالما فرش القائمون على إعداد الموائد ، تمتد أيدي اللصوص لتلتهم أفواههم مالذ وطاب ... أغلب الناس يعلمون أن اللصوص لن يتساهلوا في القنص والسرقة حالما تواتيهم الفرصة في التهام مايقع تحت أيديهم من طعام أو حاجيات غير منظورة للعيان ، حتى باتت الموائد تشكو العوز من الطعام ، البيوت تعاني من السطو في وضح النهار والرجال يسيرون في الطرقات خالي الوفاض لا هم لهم إلا الفوز بما يسد رمق الأولاد ، وكان ثمة من يقول : الكرام على مائدة اللئام : (( كان السكان يعيشون في فقر متقع بلغ درجات لم أرَ لها مثيلاً في حياتي ، هناك عائلات تملك عربات باطارات خشبية كما في العصور الغابرة يجرها حمار والوالدان يمشيان حافيين )) قال مع نفسه ، هل توجد صورة مضحكة كهذه ؟ كان يعلم أنه يعيش في بلد محتل منذ عقد ونصف العقد من الزمن ، وأن الامريكان هم من يحتلون البلد وعليه أدرك أن هذا كلام لا يخلو من صحة وحقيقة . أغاظ الكلام تماماً ، ولم يضع في خلده أن الناس في هذا البلد يسيرون حفاة الأقدام ، ترى هل اكتب هذا أم اتجاوزه إذ لم أرَ رجلاً حافي القدمين أبداً يسير في هذه المدينة . كان مايضايقه حقاً أن يرى أصدقاءه يشكون الكثير من الظلم في حياتهم اليومية ، يعرف كم شمِلهم الحيف لأن أغلبهم عاطلون عن العمل ولما أعلنوا الاحتجاج تلقوا عشرات الضربات والصفعات بل أطلق عليهم الرصاص الحي . أصدقاؤه ليسوا لصوصاً إنما كان بعضهم مستعداً أن يكون كذلك أو يموت في الحال ما دام لا يستطيع تحقيق مطلبه الوحيد : العمل فقط.
شعر بالنعاس يداهمه ، لكنه رفض أن يستسلم للنوم وجد في فكرة كتابة قصته الأخيرة ، عن الملكة زبرجد وخادمها عبد الله أمراً محبباً الى نفسه ، وعبد الله في الواقع ليس عبداً ، إنما الملكة منحته اسماً لا يمكن لأحد أن يعترض عليه ، حتى لو كان الملك بكل طغيانه وجبروته ، لن يقف بوجه الملكة التي أشارت على عبد الله أن يأتي الى مخدعها ، هل كانت هذه المرة الأولى التي يغامر خادمها في دخول غرفتها الكبيرة ، المخصصة لراحتها مع الملك في ساعة تحط أقدامه في مخدع الملكة زبرجد ؟ كلا سبق له أن أرضى الملكة وأشبع غريزتها قبل أيام .
تردّد المؤلف عبد الحق الاستمرار في الكتابة فقد تذكر أن ملكاً أو أحد سلاطين العرب أو العجم ، حدثت له حكاية لا تختلف عن حكايته التي يرويها الآن إلا ببعض التفاصيل الصغيرة ، وقال الأفضل أن نعود الى أصل الحكاية لنعرف جوهرها أي حقيقتها وما يتطلبه الظرف والوقت وأن يكون مناسباً لسرد الحكاية كلها ، إذ سبق لأحدى زوجات السلاطين في العهود الغابرة ، أن تركت أحد عبيدها ذا الجسد القوي والعيون الشهوانية أن يواقِعها ، كلما خرج زوجها الى الصيد والقنص ، تنادي على خادمها القوي همساً وتداعب أشياءه بأصابعها الرقيقة الناعمة حتى ترى لعابه يسيل من فمه ونبرته تغدو أشبه بالخوار أو من أصابه الدوار ، عندئذ تلكزه في خاصرته وهي تهمس في سمعه :
ــــ هيا عليك بي يا مجنون وإياك أن تطلق صراخك كالعواء وأنت تعتليني . هل فهمت ؟
لم يفهم الخادم المطيع أي شيء إلا أن يكون في رسم الخدمة لسيدته ، وما كان يعلم ما يخبئ له القدر من منزلق خطير ونهاية لا تخطر على بال الشيطان . حين كتب المؤلف آخر العبارات : (( ..... ونهاية لا تخطر على بال الشيطان . )) قرر أن تنطلق منها البداية ، ولكن كيف ؟ عليه أن يحدد بالضبط كيف تصبح النهاية هي البداية ؟ وفكر أن هذا أمر سهل إن نحن منحنا الفكرة وقتاً كافياً من التفكير ، وخطر في ذهنه أن الملكة هي التي بيدها المبادرة ، في أي عمل ترغب في تنفيذه أو أي رغبة تنوي تحقيقها ، وذات يوم راحت تتجول في قصرها الخاص وانعطفت نحو جناح الخدم ، لتنظر كيف لهم أن يتصرفوا بغياب الأسياد ؟ اندهشت لما رأت بأم عينيها أحد الخدم نصف عار من الأعلى ، وقد ظهر جسده القوي الممتلئ بالعضلات ، لم ينتبه الفقير الى ربه الى وجود الملكة قريباً منه ، حتى نبهته إحدى الفتيات من معارفه الى وجود الملكة وهي تحدق فيه .. حالما التقت عينا الملكة بعيني الخادم ، اندفع الخادم الى إحدى الغرف لكي يستر نفسه بأي قطعة قماش ممكنة ، في الحال سألت عن اسمه قالوا لها :
ــــ اسمه أحمد يامولاتي .
ــــ هل هو من خدمنا ؟ ومن سمح له العيش في القصر مع الجواري ؟
ساد صمت ثقيل بين الخدم وبقية الجواري ، لكنها أشارت بيدها الجميلة عليه أن اتبعني أيها الخادم ، هرول أحمد خلفها مسرعاً وفرائصه ترتعد خوفاً من المجهول : ــــ ما اسم خادمنا ؟ استمرت نظراتها تنغرز في جسده القوي . رد عليها بصوت خفيض : ــــ اسمي أحمد مولاتي .
ـــــ أريدك أن تأتي الى غرفتي بعد صلاة العشاء .
ـــــ أمر مولاتي .
ـــــ هل فهمت المرام ؟
فكر المؤلف أن هذه اللعبة لم تعد نافعة في هذا العصر الذي تتمرد فيه المرأة أو الفتاة قبل الرجل وقبل تمرد الشاب ، واتفاقه مع محبوبته على فعل خارق وفوق العادة دون النظر الى قيم الأهل أو البلد ، لن أجد أي قارئ يستجيب لدواعي تولع الملكة بخادمها أبداً ، هذه قصة معروفة الملكة وخادمها زوجة الوزير وسائقها ابنة التاجر والبستاني ، ياللقصص المضحكة ، قصص فقراء لا يملكون من الدنيا إلا التفكير بالانتقام الطبقي من سالبي حياتهم ونعم بلدهم ، وحتماً سيعرف القارئ كيف يمكنه أن يكمل القصة حتى الأخير والمؤلف يعلم إن لكل قارئ طريقته الخاصة في وضع النهاية التي يريدها لشخوص القصة ، بعض القرّاء يتمنى أن تتم الوشاية بالخادم والملكة لدى الملك ، الذي سيرسل عنق الخادم الى الضرب بالسيف ، أما الملكة سيتمنى لها بعض القراء أن تموت خنقاً ، وذلك بوضع وسادة الحرير على أنفها وفمها ، ويجهز عليها الملك بعد منتصف الليل لينهي رحلتها مع الحياة خنقاً حتى الموت . وتدفن في حديقة القصر الخلفية سراً .