طالب عبد العزيز
من شرفة في الساحة بباكو، العاصمة الأذرية، يدخل الأمل، ومن خطاطة في هاتفي الذكي أنبأتها بأنني هنا، في الركن الرطب من العالم، منهدم الروح، ولا أقوى على الانتظار. أما النافذة فستظل مفتوحة، حتى منصرف الإخوة النِّدمان. فما أنا وإياهم بشيء، وقد انقضى ما بيننا منذ ساعة ويزيد.
كنت أنتظرُ حقيبة المباهج، التي ستطوي السموات والأرضين عمّا قريب، وتدخل صورتها الأولى محمية بمظلة الخيش، من جهة في مشرق النافذة، وكنت أشير الى جهة النافونا، حيث تختلف الألسن والسراويل هناك. وقبل أن تطأ قدمها عتبة المصعد كنتُ قد كتبتُ لها: ما كنت بباذل مصباحي حتى آخرة الليل، سأكتفي بما في الكأس من المسرات وانتظرك.
بعد غداة يوم الثلاثاء أخذتني عائشةُ الى المزار، الذي كان مقبرةً ذات يوم، كانت شيعية، لذا، كان المزار جزءاً من الحكاية بيننا، لكنه ظل قبالة البحر، يدنو منه، كلما مسته أكفُّ الجميلات، فهو مغمرة المدِّ ساعة تعلو أصواتهن، وهو منكشف الجزر ساعة يتوسلنه. نساء باكو الجميلات يدخلن بأذرعهن البضة البيضاء ضريح السيدة بيبي رحيمة . مداخل الضريح واطئة بقاشان من تبريز،فما خراسان ببعيدة عنها. وبعين سائحة تخطئ دائماً رأيت أن المدينة توائم بين عالمين وجغرافيتين وتاريخين شرقي آسيوي وغربي أوروبي . لهذا أخذت النسوة من الشرق سحره وطلاسمه وآفاقه، ومن الغرب مدنيته وسلوك ناسه. في الحانة التي لا تبعد عن المزار كثيراً، تلفتُ عند سلّمها، ثم جلست أبحث عن ما أضعته من النهارات.
كان عليَّ ان لا اكتب عن ذلك اليوم، أو أن اترك الطاولة فارغة، أخفي القلم والورقة وكأس الفودكا، لكنني، وكمن أخطأته آماله، ذهبت أفتش في السماء عن غيمة النسيان. اليوم هو الاربعاء، من العام الذي مضى، أنا، في طريقي الى مدينة قوبا، التي تؤتى من الجبل عادة، وترافق الدفلى الصاعدين لها على الطريق، ومن منعطف في الصخر ،كانت المركبة قد دخلت نفقاً، أظلم في منتصفه، ومن منفذه، وقد غدت الشمس جديدةً، ودعنا باكو، باتجاه الريف الاوكريني الجميل. صاح سعادات: انظر، من سفوح الجبال تلك يؤتى لنا ولكم بالنبيذ الأذري.وعلى الطريق الرطبة هذه، كانت البغال تحمل عناقيد العنب، الى المدرسة !! توقفتُ عند مفردة المدرسة. قلت وما هي؟ فقال: حيث يُدرسُ العنب ! قلت: يا إلاهي، وهل يُدرسُ العنب عندكم؟ فقال: نعم . ثم أنني، تاملت اللغة جيداً، فصحت به: نعم، يدرس العنب بارجل الفتيات، ومن السفوح الخضر تلك تنسرح الينا الكؤوس. كان القرميد على اسطح بيوت الفلاحين يخايلني.
يسألني (سعادات) سائق المركبة، التي أقلتنا الى هناك، ما إذا كانت لي وجهة نظر أخرى عن لون القرميد، في واجهات البيوت فأقول: هو فضلة كؤوس النبيذ، تلقي الفتيات به الينا من السفوح، فيستحسن الوصف. ثم انه راح يحدثني عن بحيرة الماء الحلو(ليكه جيران باتر)و شجرة الغابة (اغجقايم) والنساء الأذريات اللواتي يأتين الكونسرفاتور بعد الحادية عشرة ليلاً، ويقمن في الحانات القريبة منا، حيث نقيم، وكان قد أسهب في مديح خصر عائشة، وسألني ما إذا كنت استحسنتها. عائشة التي لم تخاصم خديجة أبداً.
تترك عائشةُ الستارة مشرعةً بانتظاري، ساعة الظهيرة، وفي غمرة انشغالي بمقتنيات المتحف ذي الواجهة الأبنوسية، كنت أتركها في المنزل،حيث استأجرت، لاهيةً بمفاتيح البيانو، ومنشغلةً بالقصائد وأصص الزهر في الشرفة. وفي الليل، الذي يحلُّ باكراً، كنت استدل على خرائط جسدها، ثملاً بعطر شعرها، ومثل شجيرة لوبياء كانت تلفُّ حبل المسرات على عنقي فأغفو .