ثائر صالح
الموسيقى هي سلسلة من الأصوات ... والصمت. فالصمت هو جزء مكمل للتعبير الموسيقي، ولا يمكن تخيل الموسيقى بدون استعمال فترات من الصمت، مثلما لا يمكن تخيل الرياضيات من دون الصفر.
بتعبير آخر، الصمت والموسيقى مكملان أحدهما للآخر، ولا يمكن لأحدهما الوجود من دون الآخر تماماً مثل الضوء والظل، هل يوجد الضوء من دون الظل؟ وهل يمكن للظل أن يتكون من دون ضياء؟ وأيها كان الأول؟
العبارة الموسيقية تشبه الجملة في اللغة على العموم، إن تكلم الإنسان فسيحتاج إلى وقفة ليلتقط نفسه ثم يكمل. وكل الجمل تنتهي بنقطة، عند اكتمال الفكرة، حتى تؤذن لبداية جملة جديدة. الصمت يعرّف حدود الصوت، ويساعد على تمييز الإيقاع وديناميكية الصوت والألحان بشكل أفضل.
يستعمل الصمت كذلك كجزء من البناء الدرامي والتوتر ولزيادته، مثلما هو معتاد في اللغة والمسرح. فالصمت هو أحد أدوات التعبير، لا يمكن الاستغناء عنه. يقول آلدوس هكسلي (1894 - 1963) " تلي الموسيقى الصمت في الاقتراب من التعبير عما لا يمكن التعبير عنه".
استعمل الموسيقيون الصمت على الدوام، وهناك العديد من الأمثلة التي يمكن تقديمها على الاستخدام المقصود لوقفات يطول مداها أو يقصر استعملها المؤلفون كأداة تعبير موسيقية. لنأخذ باخ، فسنعثر على الكثير من هذه الوقفات في كانتاتاته إذ استعملها لزيادة التوتر والتأثير الدرامي. ونعثر عليها بكثرة في أعمال ابنه كارل فيليب إيمانويل (1714 – 1788) المكتوبة لأدوات المفاتيح. وهذا هو شأن كل الموسيقيين الآخرين، لكن المثال الذي أحبه كثيراً هو الحركة الأولى معتدلة السرعة من سوناتا البيانو رقم 32 للعبقري الكبير فرانس يوزف هايدن (1732 – 1809)، وهي قطعة بيانو عجيبة في سرعة تبدل المشاعر بين الرقة والأناقة والحزن والفرح والسمو ... من النادر أن تجد كل هذه التبدلات في العواطف في قطعة واحدة. هايدن استعمل الوقفات بشكل فعاّل للتعبير عن كل هذه المشاعر والتنقل بينها. كما استعملها في قفشاته ودعاباته الموسيقية الكثيرة، ومنها الحركة الرابعة من رباعيته رقم 2 من مجموعة 33، إذ استعمل الوقفة لخداع المستمع وجعله ينتظر دون طائل.
أما في العصر الحديث، نجد عملاً بزّ كل الأعمال الأخرى في استعمال الصمت، هو "عمل" الموسيقي الأمريكي جون كيج (1912 – 1992) الذي "ألفه" سنة 1952 بعنوان (أربع دقائق وثلاثة وثلاثين ثانية)، وهو زمن العمل الذي يتألف من الصمت فقط. هذا العمل الفلسفي هو التعبير عن الوحدة بين الصمت والموسيقى، واعتبار الصمت ذاته جزءاً من الموسيقى.
أبلغ صمت هو ذلك الذي نجده على ورقة مدونة خطط باخ سطورها خماسية الخطوط ووضع حدود خاناتها مقدماً سنة 1722 لكنه لم يضع النغمات عليها. ترى ما هي الموسيقى لستة أصوات التي تخيلها باخ على هذه الورقة التي تلوثت ببقعة لعلها قطرة قهوة سقطت على موضع نغمة مي؟