لطفية الدليمي
تداعت أمامي صورٌ ديستوبية قاتمة بشأن مستقبل العراق وأنا أتابعُ الحوارية المهمّة التي عقدتها (دار المدى) حول آلية معادلة الشهادات العليا في الجامعات العراقية ، وقد أعجبتُ بالمداخلات الدقيقة التي أوردتها الدكتورة ( نادية هناوي سعدون ) لتفاعلها المباشر مع واقع الحال الجامعي العراقي و هي من وسطه المتخم بالسلبيات الإشكالية القاتلة .
إنّ مايؤلم حقاً في هذا الشأن ، أن هذه الإشكاليات ليست قدراً مفروضاً على الجامعة العراقية إنما هي صناعة بشرية مقصودة ، تسعى لتدمير كلّ البُنى التحتية الساندة للدولة المدنية في تفاعلها مع متغيرات عصرنا الراهن .
إن الذين يشرعنون أحابيل المناورة والكذب لنيل شهادة عليا مزوّرة ليسوا بمواطنين أسوياء ، بل هم كائنات تستكمل حلقات تخريب مالم يتخرّب بعدُ ، ويبدو أنهم لن يتوقفوا حتى يستحيل العراق خرابة لاتليق بحياة إنسانية معقولة .
يدلّنا الخراب المقيم الذي يرزح تحته العراق والعراقيون على حقائق كثيرة ؛ لكنّ الحقيقة الكبرى - كما أحسب - هي أنّ عدداً غير قليل من العراقيين ، وبخاصة هؤلاء القيمين على تشريع القوانين ، لايحبّون العراق ولايكترثون بكلّ معالم الدمار التي حلّت به سواءٌ أكانت خبيثة مقصودة أم نتاجاً للجهالة والسفاهة واستباحة كلّ القوانين الراسخة والأعراف النبيلة . لستُ غافلة عن حقيقة أنّ بعض العراقيين تتمزق قلوبهم وهم يرون العراق الجميل يتراجع متخلفاً ؛ وهؤلاء قلّة قليلة مغلوبة على أمرها حائرة تداري جراحها بصمت .ماأغدر العراقيين الذين يرون في العراق مجرد حافظة نقود ينهبونها ويجنون معها خيرات البلاد كلها ولايرفّ لهم جفن لكلّ مظاهر الرثاثة التي أغرقت العراق .
كانت مصادفة - وربما غير طيبة لي - أن أتابع الحوارية الفديوية التي نوّهتُ عنها أعلاه في أيام أقرأ فيها مجموعة منتخبة من كتب حديثة تتناول حقبة الثورة الصناعية الرابعة ومعالم عصر مابعد الجائحة الكورونية الراهنة والتي ستعيدُ تشكيل حياتنا ، وربما تكون إيذاناً ببدايات ولوجنا عصر الأنسنة الإنتقالية . أحد هذه الكتب كتابٌ بعنوان ( التعليم العالي في حقبة الثورة الصناعية الرابعة Higher Education in the Era of the Fourth Industrial Revolution ) حرّرته البروفسورة نانسي دبليو. غليسون Nancy W. Gleason وصدر عن دار نشر ماكميلان عام 2018 ، كم يملأني الحزن وأنا أقارنُ بين رثاثة الواقع الجامعي العراقي الملغوم بالمزوّرين وبين عقول تتطلّع لمغادرة الشكل التقليدي الراهن للتعليم الجامعي بفعل متغيرات العصر ومستجداته التقنية الكبرى .
في مقابل الرثاثة والمجانية في منح وقبول شهادات الدكتوراه العراقية يحضرني مثال البروفسور الفيزيائي ( فريمان دايسون Freeman Dyson ) أحد كبار العلماء الأفذاذ الذين قادوا مشروعات بحثية رائدة بالإضافة لكتاباته الغزيرة : بعدما توفّى دايسون في شهر شباط الماضي ( 2020 ) عمدتُ إلى قراءات مستفيضة عنه ، وكانت أهم قراءة من بينها، هي حوارية رائعة معه منشورة في الموقع الألكتروني البارز Quantamagazine عام 2014 بعنوان ( متمرّدٌ من غير شهادة دكتوراه A Rebel ‘ Without a Ph.d ‘ ) ، وقد أفاض فيه العالم دايسون في تبيان أسباب نفوره النفسي من السعي وراء الحصول على الدكتوراه ، وأنّ غياب هذه الدكتوراه لم يشكل عائقاً أمامه في تحقيق تفوقه العلمي الذي يعرفه كلّ من اطلع على منجزات هذا العالم الجليل .
ألا ترون معي أن تزوير الشهادات العليا في الجامعات العراقية يصلح لأن يكون فكرة رواية غير مسبوقة عن أحد وجوه الديستوبيا العراقية الراهنة؟