ستار كاووش
أصحو كل صباح ولا شيء يشغل تفكيري سوى المرسم، لا شيء يملأ عقلي غيره، ومع احتساء القهوة عند نهاية الفطور تتصاعد درجات التوق الى أقصاها، فأكمل قهوتي بسرعة وعيني تتطلع من خلال نافذة البيت الكبيرة الى المرسم الذي يبعد عشرين متراً خلف البيت.
لم استطع أن أقاوم هذا الشعور وهذه اللهفة التي تبقى مُعَلَّقة في روحي حتى بعد أن أفتح باب المرسم وأجول بنظري بين اللوحات غير المكتملة وعلب الألوان التي أخذت أماكنها غير المنتظمة والإطارات مختلفة الحجوم والتخطيطات المبعثرة على الطاولة الواسعة التي لطختها الألوان من كل الجهات، فيما تنتصب لفافة الكانفاس الطويلة في الزاوية وكأنها تتأهب لتحيتي. البعثرة والفوضى الوحيدة الجميلة والمنتجة هي فوضى المرسم، يالها من فوضى خلاقة لأنها رغم عدم تناغمها تنتج أعمالاً متناغمة ومكتملة وجميلة، إنها فوضى تؤدي الى انتظام.
أدخل المرسم وكأن روحي تسكن هذا المكان السحري الذي أقضي فيه كل يوم ثماني ساعات تقريباً، لذا أحبه بشكل يبدو مرضياً أو خارج السياق الطبيعي للتعلق بالأماكن، والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يبقى متواصلاً حتى عند ذهابي في سفرة داخل أو خارج هولندا، وكي أتغلب على الحنين في هذه الأوقات، أظل اتطلع بين وقت وآخر الى صور مرسمي وأنا بعيد عنه. لا شعور يقترب من هذا الشعور أبداً. ربما كان إحساسي وأنا في الطريق الى الأكاديمية صباحاً حين دَرَسْتُ الرسم يشبه هذا الإحساس بعض الشيء، وقتها كنتُ أترك مقعدي في الباص في آخر محطتين لأقف قرب الباب ممسكاً بالقضيب الحديدي الذي يربط السقف بالأرضية ورافعاً بإيقاعات متناوبة كَعبَي قَدَمَي الى الأعلى، إيقاعات يهتز معها جسدي وكأن لي جناحين يطيران بي أسرع من الباص نحو الأكاديمية التي كانت تمثل كل شيء في حياتي، وليس هذا فقط بل كنت أحرص أن أكون هناك قبل ساعة تقريباً من بداية الدوام، حيث أدخل وأنا أتعطر برائحة أشجار البرتقال التي تحيط بكل الممرات.
أعود لموضوع المرسم الذي يمكنني أن أشبِّهُهُ بالمطبخ الروسي، ذلك لأن الشخص الروسي حين يدعوك لوليمة أو حفلة صغيرةأو لتناول بضع كؤوس من الفودكا فهو يهيء لك كل ذلك في المطبخ الذي يعتبر أساس الحياة الروسية لأن كل الطعام والجلوس والشرب والحديث واللقاءات تتم عادة في المطبخ. لهذا أراني أشبه هؤلاء الروس المحتفين دائماً بالحياة، فأنا مثلاً أدعو شخصاً ما لبيتي، لكني استقبله في المرسم، وبعدها نقرر إن كنا سنبقى هناك أم نكمل لقاءنا في البيت (المليء باللوحات أيضاً)، وهكذا يتداخل التعبير عندي في أحيان كثيرة وأنا أتفق مع أصدقائي على موعد معين، قائلاً انتظركم في (البيت) وأعني هنا المرسم، لأن المرسم ببساطة هو بيتي الذي تسكنه روحي وبداخله تنتظرني كل صباح الشخصيات التي أرسمها، وكأنها تتهامس فيما بينها أثناء غيابي، ثم ترتفع أصواتها بشكل متناغم وأنا أهم بفتح الباب ( صباح الخير سيد كاووش).
في مرات كثيرة حين يقرر أحد الأصدقاء المبيت عندي بعد ليلة مضيئة، يكون نومه غالباً في المرسم، وسط اللوحات المكتملة وغير المكتملة، وقد كتب الكثير من أصدقائي قصائد عن المرسم، بعد أن أحاطت بهم اللوحات التي شعروا بأنها لا تنام ليلاً، بل تبقى مستيقظة مثل الملاك الحارس، حيث استلهموا نصوصهم من المكان الذي يزخر بالألوان واللوحات والأفكار الفنية والمشاريع غير المنتهية.
المرسم هو مطبخي الحقيقي، ففيه أُحَضِّرُ وصفات الرسم والتقنيات التي استخدمها، أضيف شيئاً هنا وأحذف تفصيلاً هناك، أغير هذا الجزء وأضيء تلك الزاوية، كي تكتمل الطبخة الذهبية في النهاية وتذهب الى قاعات العرض.
هل هناك مكان يشبه ذلك؟ لا اعتقد بأن أي مكان في هذا العالم يساوي قيمة وجمال ومكانة المرسم بالنسبة للفنان الذي يعشق فنه وينتمي إليه.