د . ياسر عبد الصاحب البرّاك
يرتبط المسرح الإحتجاجي (protest Theatre ) بالأحداث المفصلية الكبرى التي تمر بها المجتمعات ، تلك الأحداث ( السياسية والاجتماعية والإقتصادية والثقافية ) التي تؤدي الى تغييرات في البنية العامة لأغلب الجماعات ،
حيث يعمل المسرح الإحتجاجي بوصفه إنعكاساً لتلك البنية على تمثّل التغييرات والمساهمة فيها عبر الفعل المسرحي الذي يأخذ أشكالاً خاصة تختلف عن الأشكال السائدة ، فالإحتجاج ليس مجرد موقف فكري أو سياسي أو إجتماعي ، إنما هو موقف جمالي وفني أيضاً من الثقافة السائدة التي يهيمن عليها خطاب السلطة ، لذلك يسعى المسرحيون الى تجديد وسائل التعبير لديهم بما يتناسب مع الوظيفة الجديدة التي يتمثَّلها الفعل المسرحي محاولة منهم لتجديد العلاقة مع الجمهور المسرحي الذي يكون – في ظل تلك المتغيرات – في حالة نفسية وثقافية مختلفة عن طبيعتها التقليدية .
هذا التوصيف للمسرح الإحتجاجي ينطبق على الحالة العراقية التي شهدت منذ الإحتلال الأميركي عام 2003 تغييرات بنيوية أدَّت الى إعادة النظر في العديد من المسلَّمات المسرحية التي كان يعمل عليها المسرحيون العراقيون قبل هذا التأريخ ، لذلك شهدت المسارح أعمالاً كثيرة كان فعل الإحتجاج فيها هو المُهيمن الكبير – بحسب تعبير الشكلانيين – التي تتسيَّد جميع أنساق العرض الفنية والجمالية ، وهذا الإحتجاج هو نتاج لاحتجاج أكبر ينبع من المجموعة الإجتماعية التي تتظاهر ضد سياسات الحكومات الفاشلة التي أغرقت البلاد بالفساد المالي والإداري والمحاصصة الطائفية والحزبية التي أدَّت الى تراجع مستوى الخدمات العامة ، فضلاً عن إنهيار شبه تام في جميع المؤسسات الحكومية ما وضع المواطن العراقي أمام محنة يومية تهدد وجوده الإنساني وأبسط مقومات العيش في بلاده . وعلى الرغم من أن الأعمال المسرحية - بوصفها تعبيراً عن الإحتجاج السلمي - كانت حاضرة على مدى السنوات الماضية ، خاصة مع الحركات الإحتجاجية التي برز حضورها الواضح في الشارع العراقي منذ عام 2011 ، إلا أن الحضور الأبرز كان مع إنطلاقة ثورة تشرين في 1 / 10 / 2019 حيث برز دور الفعل المسرحي في ساحات الإحتجاج بوصفه تعبيراً سلمياً آزر ثورة الشباب الغاضبين التي عمَّت مدن الجنوب والوسط فضلاً عن العاصمة . ولم يقتصر هذا الفعل على العاصمة بوصفها مركزاً مسرحياً مهيمناً ، بل تعداه الى جميع المُدن المُحتجَّة على الرغم من عدم توافر الإمكانيات التقنية والبشرية الإحترافية في تلك المدن التي تُعاني من إشكاليات بنيوية في حياتها المسرحية ، الأمر الذي عكس إيماناً حقيقياً بدور المسرح في التعبير الإحتجاجي السلمي لما يملكه من ميزات إتصالية يُمكنها أن تدفع الى التوعية والتحريض بشكل مباشر وفي لقاء حي مع الجمهور العام . والأهم من ذلك أن المسرح يمكن أن يحقق وجوده بالتواصل مع الجمهور في أي حيز عام ( شارع ، ساحة ، حديقة ، خيمة ، .... الخ ) ما يُعطي له تلك القوة الدرامية في التأثير التي تدفع بالجمهور الى الإستجابة المباشرة والتفاعلية التي تصل حدَّ تحوّل الجمهور نفسه الى فاعل في العرض المسرحي سواءاً عبر التعليق والمشاركة ، أو عبر النزول الى مساحة التمثيل وتقمص الأدوار كما حصل في أكثر من تجربة قُدِّمت أثناء الإحتجاجات التشرينية .
إن أي متابعة ببلوغرافية للأعمال المسرحية التي قُدِّمت على مدى عام كامل هو عمر الثورة سنجد أن العنصر الفاعل فيها هم الشباب ذكوراً وإناثاً وهم إنعكاس للعنصر الفاعل في ساحات الإحتجاج وميادين الثورة منذ إنطلاقتها ، بينما كان الفنانون من المتقدمين في السن ظلالاً لذلك الحضور الشبابي . وقد لوحظ إندماج الهواة مع المحترفين في الجهد المسرحي خصوصاً في ساحة التحرير التي نُصبت فيها ( خيمة التحرير ) بمبادرة من الفنانين ( باسم الطيب ، كحيل خالد ، تحرير الأسدي ، علي السوداني ، وآخرين ) حيث شهدت هذه الخيمة العديد من العروض المسرحية والورش والندوات الفكرية التي تُركز بشكل أساس على الخطاب المسرحي بوصفه فعلاً إحتجاجياً ضد حكومة عادل عبد المهدي التي أوغلت في قتل المتظاهرين السلميين عبر العديد من وسائل القتل المُحرَّمة دولياً في التعامل مع هذا النوع من الإحتجاجات ، ولم تكتفِ هذه الخيمة التي تم تجهيزها بمختلف التقنيات المسرحية بجهود ذاتية بتقديم العروض البغدادية فقط ، بل ضيَّفت عروضاً مسرحية من البصرة والكوت والحلة وكربلاء وديالى وهي عروض سبق وأن قُدِّمت في مدنها التي جاءت منها أيضاً . كما يمكن أن نؤشر هنا العديد من العروض المسرحية التي قُدِّمت في ساحة الحبوبي وهي ساحة التظاهر الرئيسة في مدينة الناصرية بجهود عدد من الهواة المسرحيين الذين تفاعلوا مع الأحداث الساخنة في هذه المدينة . بل أن بعض المسرحيين عمل على عرض نتاجه المسرحي في أكثر من محافظة كما فعلت فرقة التغيير المسرحية في كربلاء حيث عرضت اعمالها في بغداد والناصرية وكربلاء وعدد من المحافظات الأخرى .
ومن اللافت للنظر أن جميع العروض المسرحية التي قُدِّمت في بغداد والمدن الأخرى قد تفاعلت مع حدث ثورة تشرين بوصفه حدثاً آنياً له إمتدادات زمانية ماضية ومستقبلية ، لذلك جاءت أغلب الرؤى في تلك الأعمال سواءً على مستوى النص أو العرض متماهية مع الثورة وأحداثها الدراماتيكية المتحولة ، حيث سعت تلك الأعمال لتقديم شخصيات واقعية ( متظاهر ، سائق تكتك ، مسعف ، شهيد ، أُم ، أب ، حبيبة ، .... الخ ) بوصفها موتيفات يومية شكَّلت الصورة العامة للفعل المسرحي ، لكن ذلك لم يمنع من الذهاب بإتجاه الرمز والإستعارة في بعض الأعمال المسرحية التي حاولت أسلبة سرديات الثورة والخروج بها من ( الوقائعية اليومية ) الى فضاءات التخييل الدرامي الذي يحفظ للفن شروطه الجمالية البعيدة عن الفعل الدعائي ( البروبجندا ) المرتبطة بقضايا الثورة وشعاراتها المرفوعة في الساحات كما هو الحال في مسرحية ( إنتظارات مُرّة ) التي قدمتها الدكتورة عواطف نعيم بوساطة محترف بغداد المسرحي ولصالح المركز الثقافي الفرنسي في تناص إبداعي مع مسرحية ( الصوت الإنساني ) لجان كوكتو .
سيجد المتابع لتلك الأعمال سواءً عبر حضوره الميداني في الساحات أو المتابعة عن طريق البث المباشر عبر مواقع التواصل الإجتماعي أنها إعتمدت على نوعين من البلاغة في إيصال خطابها الإحتجاجي أولهما : البلاغة اللغوية اللسانية عبر الملفوظ الحواري الذي أفاد من قدرات اللغة المحكية اليومية مرة ، وبلاغة اللغة الفصيحة ذات الإنزياحات الشعرية مرة أخرى . أما الثاني : فهي البلاغة الصورية التي تعتمد السرد البصري بوصفه محركاً من محركات الفعل الإتصالي مع الجمهور عبر إستخدام وسائل سينوغرافية بسيطة لكنها عميقة الدلالة والأثر كما هو الحال في بعض العروض التي إعتمدت الأنساق الطقسية ومفرداتها المادية والمعنوية في التعبير عن فعل الاحتجاج السلمي مع التركيز على الذاكرة الجمعية بوصفها مخزن الذكريات العاطفية التي تؤدي الى إستثارة الجمهور حسّياً .
ولم تقتصر العروض على فضاء ( خيمة التحرير ) بوصفها معادلاً موضوعياً لمسرح العلبة ، بل تعدى ذلك الى الفضاءات العامة المفتوحة في الشوارع والساحات لتحقيق أكبر قدر ممكن للتواصل مع الجمهور العام ، فضلاً عن إستعادة ذلك الفضاء العمومي من السلطة الغاشمة التي تحتكره بقواتها المدججة بالسلاح والقنابل المسيلة للدموع والقناصين وأسلحة صيد الحيوانات والمسدسات الكاتمة للصوت والعبوات الناسفة وأعمال الحريق التي جوبهت بها كل ساحات الإحتجاج والإعتصام ، وهذه الاستعادة هي جزء من الشعار المركزي الذي رفعه المحتجون ( نريد وطناً ) والذي شكَّل محوراً مهماً من محاور الفعل المسرحي على مستوى الأداء النصي والركحي .
إن تجربة المسرح الإحتجاجي في ثورة تشرين تجربة فريدة من نوعها لأنها إنفلتت من هيمنة خطاب السلطة أولاً ، وإستعادت الفضاء العمومي من السلطة نفسها عبر النزول الى الفضاءات المفتوحة في الشوارع والساحات ثانياً ، فضلاً عن تكريسها لمفهوم الإحتجاج السلمي عبر الإفادة من بلاغة المسرح وقدرته الإتصالية في التعبير عن حقوق المواطن ، ما يعني ثمَّة إلتحاماً واضحاً بين المسرح وجمهوره وفعل الثورة .