TOP

جريدة المدى > عام > قراءة في (داخل المكان) لجمال العتابي .. الذاكرة المهجّرة العائدة إلى المكان الأصل

قراءة في (داخل المكان) لجمال العتابي .. الذاكرة المهجّرة العائدة إلى المكان الأصل

نشر في: 13 ديسمبر, 2020: 07:46 م

محمد خضيرسلطان 

أوّل ما يتداعى الى الذهن لدى قراءة العنوان الأساس لكتاب الدكتور جمال العتابي الجديد ( داخل المكان)، بأن هناك من موقع ما معاكس أو متباين،

يوجد مَن يرقب أو يسرد خارج المكان نفسه وبأتجاهه أو يقيم مكانه المستحدث، من داخل المكان الأساس بوصفه منصة كتابة، يتموضع فيها السارد في مكان آخر، تُحدد مسافات من ذاكرة سيرية، وتُكشف منظورات "نتائج خبرة وتجربة"ربما تكون مركبة ومنظمة على نحو سيري وسردي ما لكنه في الأخير، كمن يتشبث بالمكان القديم ليدلّي بشهادته الحديثة، يجري عليه تحويراً وتبئيراً ورؤية مغايرة تماماً مقابل أن يبقيه مثل مسرح أزلي، يحتفظ بأشيائه الأولى ثم يخضبه بأصوات وصور مدركة جديدة، ويعيد تشكيل فضائه وكتله من موقع جديد،إنها الشهادة الآنية المعدّلة على نحو ما لمكان عتيق.

ولعل هذه البنية المستخدمة من الرؤية والمكان( الداخل والخارج)، هي أقرب ما تكون الى بنية وجهة النظر والتبئيرفي البناء الروائي وربما بنفس الدرجة من القرب في هذه النصوص من بناء السيرة.

يقف العتابي في تقنية كتابه الجديد بإزاء ذاكرتين، الأولى، زراعية، أزلية مستقرة، تشهد متغيّرات تحديثية بين الريف الغابر والمدن الناشئة، وهذه المتغيّرات على جميع المستويات، لم تدشن بنى أساسية راسخة قدر ما هي جزء من منظومة تابعة لنظام مجتمعي عالمي سائد آنذاك، في مقابل مجتمع أطراف، تجف نهاياته تبعاً لينابيع المراكز الدولية، وتنحسر أنهاره في مدى تدفق مصباته.

أراد السارد الأحتفاظ بصورة هذه الذاكرة الأولى، ليشكّل مفهوم وجهة النظر أو التبئير في الذاكرة الثانية الإستعادية كمنصة للكتابة أو الذاكرة المهجّرة.

كانت النصوص في الكتاب، لم تكتف بتدفق الذاكرة المكانية بشكل متصل ومتضافر النمو والإطراد مثلما يبدو ذلك، إنما يحاول أسلوبه أن يضفي طابعاً إيحائياً وتهكمياً إزاء الفاعلين الأساسيين في المكان الأصل بكل تنوعاتهم وأثر التحديث العابث عليهم، وهذا الطابع الإيحائي التهكمي، يشكّل مخططاً لإطار معرفي نوستولوجي غير واضح المعالم ودفين تحت قشرة خفيفة من التراب، ولكنه يكشف عن قراءة مرحة لمفارقة مريرة في سياق وصفي وتاريخي، والتعقيب على الإستذكارات المريرة بوصفها تجربة فكاهية منقولة الى ذاكرة جديدة.

على سبيل المثال ، قرية الغازية، لم تكن ذات منشأ لمخطط ريفي أو حضري حديث، يُذكر، سُمّيت عبثاً نسبة الى الملك غازي، ولا تملك من التسمية سوى الإستذكار والتبجيل، فيما يتغير أسم القرية بعد ثورة 1958بطريقة أشد عبثية حين يصبح أسمها الجديد " النصر" ولكن حتى النصر الرمزي في مكان آخر بعيد تماما،ً وبذلك ترتفع الستراتيجيات الأسمية في سياقها العبثي ويبقى المكان مثل يافطة تحديث متغيّرة ومطلة على حقول قديمة.

وهذا المخطط المعرفي في أحد ملامحه العامة لدى السارد الكاتب، يؤشر فهماً وطرحاً إجتماعياً وانثروبولوجياً لأزمة وإشكالية التحديث والمعاصرة وإستعادة الذات في بلادنا ومدننا شبه المحدّثة أو العصّية على تحديث منظم ، ولهذا فالنصوص بمجملها، تتناول آليات وأدوات التحديث وعدم إنتظامها بالرغم من بساطتها بين القرية والمدينة، بين الذاكرة المستقرة والثانية المهجّرة، وحتى الشخصيات الأكثر من الأمكنة التي تناولها السارد، هي نفسها، تنتمي الى نفس البعد البؤري لعلاقتها بالمكان الأصل والمكان المهجّر.

أحياناً، يوقف سارد السيرة المزيد من الإسترسال بالوصف، ويستدرك حين يذكر أداة التحديث سواء كانت، تلفون يعمل بالبطارية ذات الشحن اليدوي وشارع إسفلت أم عمود إنارة أو سيارة بعجلات مزنّرة بالسلاسل، وتنتقل الأدوات الى مستوى آخر من الاختبارية، إذا كانت مدرسة أو حزب أو جريدة أم إسم قرية ومكتبة الى غير ذلك.

وإذا كان الكتاب أو النصوص بالمجمل، لم يبد علناً في بعض نصوصه مثل هذا المفهوم إلا أنه في نصوص أخرى، يؤكد بما لايقبل الشك، بأن أدوات التحديث لم يستخدمها مجتمعنا ما قبل الدولة بالطريقة المنتظمة والمستقرة النمو في أي مكان، فقد كان التحديث، يقتصر على المدينة ليغدو عمود الإنارة والمدرسة والمكتبة، ومطعم الكباب عامل جذب سحري لإبن الريف، وسرعان ما تشكّلت نواة تخطيط عبثية غير ممنهجة لقيام الهجرات الكبرى وترييف المدن، تنتقل من قرية الغازية الى تجمعات هائلة في مدينة الحرية ببغداد وغيرها، وتعيد النظر بالأداة التحديثية غير المنتظمة في كل مكان من البلاد التي جلبت كل هذا الخراب.

وهنا نأتي الى المكان المراقب سردياً من الخارج، وعلاقة أدوات التحديث بما نجم عنه المشروع الفاشل طيلة العقود الماضية، فالمراقب بذاكرته القديمة، جزء حي من المكان القديم مثلما هو بحيوية موقعه الجديد، وطفولته في عدد من النصوص، تطابق طفولة وسذاجة المكان، لكنه في الموقع السردي الجديد، الصاعد، يعمل على تعرية الذاكرة وإعادة ترميمها بمنظور محدّث، يوحي باعادة النظر بالأداة التحديثية التي إكتسحت مستخدميها.

يستحضر المراقب السارد، حسب مخطط ريكور في الفهم والتصورالسرديين في تأطير الذاكرة الأولى والمكان الأصل، كونهما صورة ثابتة ثم يبدأ النص في بث إشاراته عبر التفسير والتأويل السرديين اللذين تمثلهما الذاكرة المهجّرة ، وينقل مجال الصورة الثابتة الى الاختبار الجديد لها في تصوير المكان الكتابي أو المنصة الكتابية في صيغة من الإيحاء والتهكّم وقول شيء ما في تمثلات الذاكرة القديمة حتى في الأمكنة البعيدة، نجد مثلاً في نص "قصر هاملت" في الدنمارك تلويحاً للذاكرة المهجًرة العائدة عبر الخندق المائي العميق المحيط بالقصر الى تداعي صور مكانية أولى في الرفاعي والشطرة والغازية.

إذن لاتكتفي الذاكرة العائدة الى المكان الأصل بالتصوير السردي حسب وإنما تنشيء هجائية جديدة على نحو ما لتفسيره ونقده أيضاً، وهذا الوعي الهجائي لم يكن عميقاً في نصوصنا الروائية والسيرية، ويحتاج منا الى فهم سردي أشمل وتمثيل أدق لمكان ماقبل التحديث.

*كتاب "داخل المكان – المدن روح ومعنى"- جمال العتابي – سطور- الطبعة الأولى

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

علم القصة - الذكاء السردي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

عدد خاص للأقلام عن القصة القصيرة بعد ثلاثة عقود على إصدار عدد مماثل

ليلة مع إيمي

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

مقالات ذات صلة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب
عام

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

بلقيس شرارةولد بدر شاكر السياب في قرية "جيكور" في محافظة البصرة، في جنوب العراق، وقد توفيت والدته عندما كان في سن السادسة من عمره، إذ كان لوفاتها أثر عميق في حياته، بل كان هذا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram