TOP

جريدة المدى > عام > الأغنيات صبايا وبساتين

الأغنيات صبايا وبساتين

نشر في: 14 ديسمبر, 2020: 07:15 م

ناجح المعموري

هذا النص مكتظ بإحالات حسيّة ،لا تبتعد عن الجنسانية ومثل هذا الاهتمام الشعري غير منحاز لطرف واحد من قبل الشاعر بل ثنائي ،

مذكر ومؤنث ، فالنجم ذكوري يستعيد النص الى عتبة العنوان وعلاقة الاستهلال بالمطر ، لأنّ الإله آنو هو الذي يطربس / يغرق الأم الكبرى الأسطورية ، ومعها الإلهات الأناث ويستدعي هذا المقطع ديمومة النفس بعلاقته مع الجسد الأنثوي وهو يخضع لنداءات الأيروتيك وهو يرسم على الجسد تفاصيل الجذب والتشابك مع صعود قوى التعاشق والأندماج بالآخر. فالرجل هو الأنا / الذات لكنه لايتنكّر للآخر الموجود فيه .

للنجم الذي أحببت 

نقشا سومرياً تزخرفه الحاءات

يعاود نص الشاعر الياسري عودته الى الروحي وأهمية التشاكل بين الواقعي والصوفي ، فالحاءات في الثقافة العربية الإسلامية متضادّة ، متباينة بالأختلاف لكن النص يزحف راكضا نحو الحبّ ، لأنّ النقش الأسطوري / السومريّ استحضر كل ما بالإمكان تسريع مجاورة الطرفين ، لأكتمال المزهو بواسطة الآخر 

في سحب الشتاء لها مسلّة

في قصب نسجنا الجلود من سيقانه 

الأغنيات صبايا أو بساتين

الغيوم استحضار للأدخال ، والسواد ترميز أنثوي للحظة التي يتم دخول الظلمة المتعيّة ، ومثلما السحب سوداً ، المضموم الأنثوي معتم مظلم ، والمسلّة الهطول حبالا كالقصب وهي معانٍ ذكورية وسط هذا الاحتفاءالإنعاشي يتحول القصب جلوداً تغطّي الأسرّة وأراضي الغرف وتصبح الأمكنة الصاعدة والمرتعشة ، بالأغاني مثلما يحدث للصبايا المراهقات وهنّ يرسلن النداءات . ومع التنوع وازدياد الخصوبة الشتاء / المسلّة / القصب / الصبايا / البساتين . وأعاود ثانية للتذكير بالكلام الأوّل عن المعبد المنتصب . أي المقدس المستحضر للعقل ، وفي هذا المقطع للسحب مسلّة ، هي من خاصيات الآلهة المذكرة . مماثلة للمعبد المنتصب . وهذه الصورة ليست مجهولة بل مرتبة لأنّ الأشياء كلها تعرف النكاح لأنّ الثنائي من مكوناتها ، المذكر والمؤنث . النكاح ظاهرة كونية تتم بين الحروف والليل والنهار والسماء والأرض ، وهو كذلك عبادة للسرّ الإلهي كما قال فريد الدين الزاهي . 

إن العلاقة الاتصالية / الجنسية طاقة خفية في أحيان عديدة ،سرية في الإدخال الذاهب ، المتحرك عن سيرورة استعادة الجسد الأندروجيني الآدميّ الأصلي . من ثم يغدو النكاح صورة أصلية لحركة الوجود.

النظرة الكونية هي التي حملت ابن عربي الى التعامل مع الخنوثة بوصفها الشكل الأسمى للوجود ، واعتبار الإنسان محاطاً بأثنين هما المرأة والحق " فأن الرجل مدرج بين ذات إلهية ظهر فيها وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنثين تأنيث ذات وتأنيث حقيقي" / فريد الدين زاهي ص 27 .

الأغنيات صبايا أو بساتين

لن تدور الكؤوس بها

من الشمس استعارت نوافذها 

من الرمّان بها لمسة

حلم في كفّ فاتنة لم تعشْ زفافها

لأنّ الرماد الذي بثّته العصافير من خوفها

أشار لها 

أن صيّاداً خبّأ الرأس في الظلمة

جاء يغتال القمر

سرى الخوف رعشة

وجوم على القلب

احتست ذلّها الأنهار

كشف النص الشعري هيمنة الذكورة واستبعاد رمزي وثقافي للأنثى بسبب خضوعها لأنّ المذكر يحتاج جسدها ، ليس لذّياً فقط ، بل ملكية أبدية . وتبدّت الأنثى في هذا النص مهيمن عليها ملاحقة بآليات العنف حتى لحظة الأندماج مع الآخر الذي لايقدر على قطيعة مع العنف الذي هو ثقافة تأسست لحظة الطفولة ليست عبر المزاولة ، بل مشاهدة وهو يرى ما يحصل ويظلّ العنف ينمو ويصير رأسمالاً رمزياً .

القصب الصاعد ، المنتصب تمجيداً ثقافياً ورمزيا ًللذكورة ، وكأنه يقدم صورة للإله الصاعد المنتصب ، والمكان الذي انتسب إليه القصب وتصاعد متسامياً نحو السماء متماثل مع المعبد الشاهق والزقورة . وعودة جديدة الى نمطية الرموز اليونغية المعروفة وهي / الماء – الهواء - الشمس – التراب / هي القادرة على رسم المشهد المقدس ضمن أحلام الاتصال الجسدي والإدخال اللّذي والقيام في مكمن مظلم . وبذلك نجح المذكر بالتعامل مع المخفي ، غير المرئي المضموم كي تحقق الأنثى ما تريد من حق لو قهرها الأصبع / عود القصب . الذي يعني ونسبياً أحد أهم وجوه الجسد المتناظر مع السماوي ،والأم الكبرى / التراب / الأرض التي كانت وعاشت منتظرة أن تشحذ به عبر البَلل بحيث تصعد نشوتها ويصيبها صرح الأرتعاش الشهوي وتصير مكاناً مجازياً صاعداً نحو السماء ، كما قال كوربان .

هذه الأستلالة الموظفة للنص لها تفرعات تفضي للجنسانية وتكرس دورهما في معاينة صورية ، ثنائية مزدوجة بين السماء والأرض . الأله الذكر المختار للسماء مكاناً له ، حتى يشرف ويهيمن وكأنه يؤدي وظيفة الموسم السنوي الطويل الذي يركب فيه الأم الكبرى . التي لا تعني عجوزة ، بل هي الأنثى ، الأرض دائماً هي هكذا ، مثلما هي عذراء ، لأنّ الأله لايكتفي بالأدخال وإغراق ما هو تحت السماء بالماء / المني . بل يجب على النظام الكوني المكوّن منذ ابتداءً التأسيس أن يكون قيه الأله شاباً ، قوياً يفتضّ العذراوات ويستمتع بهنّ. لأنه يختارهنّ معاً في فضاء واسع للغاية ويزاول وظيفة الافتضاض والاستمتاع وتظلّ الأنثى الأرضية غارقة بمائه ، منتشية ما دام سابحاً مغطياً سطحها الخارجي ونازلاً الى رحمها الداخلي العميق

مرآته الماء 

في سحب الشتاء لها مسلّة

في قصب نسجنا الجلود من سيقانه

مقطع شعري اختزل الكثير من ايروتيكية هذا النص وظلّ في ديمومة هذه الإحالة لكل ما غذّته الأساطيرمنذ العتبة البدئية . لذا ظهر في هذه القراءة اله آخر أكثر قوة وهيمنة وإخضاعاً ولا أحد يرى بشكل مفاجئ ـ أو مكشوف ، إنه الإله السومري أنكي / والأكدي أيا ، هو ذكر أيضاً لكنه مُبرّأ من القسوة وممارسة السطوة على الأم الكبرى / الأنثى بل أبدى منذ بداية اكتمال عناصره الثقافية والدينية مناصرته للكائن والكينونة ، لأنه المغذي للحياة ، اذا انقطع ماء السماء وتوقف ادخال الأله آنو والآخر المعربد أنليل . فالأله آنكي هادئ ، صامت ، له دبيب اليد الممتدة لجسد الأنثى مداعبة ، ويحقق لها ما تريده من اكتمال الاستجابة . الإله آنكي / المختار منطقة الأبسو / المياه العذبة تحت سطح الماء ويتسلل الى الأمكنة التي يريد ويغرقها ببلل ذكورته ويمنحها طاقة عقله وحكمته وتحتمي الأنثى من الغرق أو الطوفان .

هو ممتلك كل ما هو ظاهر فوق الأرض ، وصار منذ البدء ملكية له ، وحتى الآن متباهٍ بذلك مُفتخر بالذي أعطاه للأفراد والجماعات من خيرات مالئة للفضاءات الأوسع . وما يوميء له الآن ذلك هي 

في سحب الشتاء لها مسلّة

في قصب نسجنا الجلود من سيقانه

المبالغة واضحة في الطاقة الأيروتيكية للإله آنكي ، فالقصب ذكورات تخصيب للأرض ومركز ما يشبع الأرض بها . ولا بدّ لي وأنا أتحدث عن الأله آنكي أن أستعيد الأسطورة الرافدينية ، ولا مثيل لها . عندما ابتدأ ينزو ويؤسس ما لم يكن مؤسساً من قبل . نستطيع أن نقول بأنّ آنو يمارس الجنس مع الأله أنليل مزاولة شهوانية ، أما أنكي فانه وظيفية كونيّة، كليانية ،مرة واحدة كافية ،ولكن أية واحدة ، لقد ذهب آنكي واستجسد نهر دجلة ووقف على ضفته وظلّ ينزو لأنه حاز صفة الثور حتى ملأ دجلة منيّاً، وبعدما اطمأن لأستجساده أسرع نحو الفرات وتكررفعل النزو حتى امتلأ منيّاً ، أعطى الحياة أعظم سائل جبار يعطي للأنوثة ما تريده وتحقق خصوبتها .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

علم القصة - الذكاء السردي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

عدد خاص للأقلام عن القصة القصيرة بعد ثلاثة عقود على إصدار عدد مماثل

ليلة مع إيمي

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

مقالات ذات صلة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب
عام

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

بلقيس شرارةولد بدر شاكر السياب في قرية "جيكور" في محافظة البصرة، في جنوب العراق، وقد توفيت والدته عندما كان في سن السادسة من عمره، إذ كان لوفاتها أثر عميق في حياته، بل كان هذا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram