محمد خضير أعرف أن المعلومة والمنهج والتحليل النقدي أساسات أية كتابة لا نوعية، كالمقالة، لكني أتجاهل هذه المحددات وأكتب نوعاً إنشائياً غير محدد. إني أتسامى بشكل انتحاري على نوعي الإنشائي.أعرف أني أتجول في فراغ إنشائي،
في غابة مجهولة المسالك، تملؤها المعلومات والمعلومات المضادة كالطفيليات، أعلم أن البؤرة الملتهبة، المتحللة كرماد تاريخي عفن هي مساحتي ومراحي، أعلم أن هذه البؤرة (وطن الأم) تتعهر وتلطخ وجنتيها بمساحيق انتحارية، وأعرف أن شعبي مزدهر في الفراغ كشجرة آدم، ويتكلم لغة الملائكة، وأعرف أن العالم يحاول أن يحتويه بأكثر من واسطة حديثة ومرض استعماري قديم؛ أعرف كل هذا ولكني سأنشئ اللغة المناوئة لفكرة (احتواء العالم)، سأقطع شبكة المرض القديم وندوبه الحديثة بأسناني المركبة في جمجمة رملية. إني أحفر بردّةٍ ارتجاعية يائسة وعنفوان شهوي. لا دفاع قوياً عندي ضد هجوم الأشباح المتفكرة، لكني أنشر حولي سحابة رؤيوية مخاتلة.أقاوم رغبتي في ملاحقة (خواطر) عبد الله العروي، و(بينيات) عبد السلام بنعبد العالي، وكتابات كليطو والخطيبي ويقطين وابن الشيخ وسواهم من مفكري التجارب التنويرية المغاربة، وفي لحظة ضجر أسحب تفكري من حلقتهم الضاجة بتفاعلات النصوص العالمية، وسياسات (احتواء العالم)، وأرتمي في حديقة الشرّ الصامتة، أتمرغ في فراش الشوارع الخرساني، أستسلم لتيار الرعب المتفجر من كبسولة الحلم العاري، أعانق عشتار الفاجرة في حبسها التموزي، ألعن إنشائي وبلاغته الشيطانية، أسدل الستارة على عهر خطابه الشعبوي المتصاعد من حمأ القرون البالية فيلتف حول عنقي كأفعوان أوروك الأملس، يفجر كبسولته في أحشائي، يتحول إلى طبيعة قهرية مستبدة بالأغصان الخضر والجذور العاقلة، أخدر مثل دودة فاجأها الانفجار في باب ثقبها الآمن، أشاهد رقصة الشيطان وأتراجع أمام حقيقتي الإنشائية المغلفة بسحابة مخاتلة.هل يتسع الوقت لكي أتسامى على خطابي الإنشائي؟ إني أدعه يرسب ليلمس القرار البارد المرعب المفتوح كجرح (كافكا) في خاصرة مريض (الأرياف) أو أدعه يبحث عن رطوبة السراديب التي انغلقت على شخصيات عبد الرزاق الشيخ علي ويوسف الحيدري وموسى كريدي، الأبطال الهاذين في مونولوج ملتف كعقدة الأفاعي في ليل طويل. إني أستعمل آخر معلومات حقلي الإنشائي، أودع طمأنينتي عند جدار الأموات، وأعانق المصلوبين على أعمدة شارع مليء بالحفر والقمامة، أفاجئ نفسي معهم واقفاً في منتصف ليلة صيف عند الباب العالي/ الباب الواطئ للدخول إلى عصر الدولة الكافكوية. أتذكر المقطع المقشعر من قصة كافكا (طبيب الأرياف)، لمّا يطل حصان عربة الطبيب من النافذة المنخفضة على غرفة المريض الذي يعاني جرحاً في خاصرته موّاراً بالديدان، بينما أطفال القرية ينشدون للمريض خارج المنزل. تستعر الشهوة في بطن كافكا، وهو يشاهد هذه المسرحية الطفلية في فجر ليل أوربا الرأسمالية، الشهوة اليهودية في حفل ختان أطفالها. إني أحاول ضبط شهوتي، أراجع إنشائي كي أفكّ رهاب الطفولة في ليل العراق الأسطوري. إني أشتري حريتهم بالتضحية بإنشائي الشهوي، أتسامى على بؤرة الديدان في جرح كافكا اليهودي.لا أعوّل على الجانب اللغوي في بداهتي الإنشائية فقط، وإنما أستعين ببداهتي التخطيطية لتعويض العناصر الضرورية المفقودة من مقالتي (المعلومة، النقد، المنهج)، كما أستعين ببداهة القارئ لتصور هذا الجانب المفقود. ألجأ إلى كراسات رسومي لتجسيم الجانب التصويري المكمل للجانب اللغوي التجريدي. أختار بعض الرسوم لسد الفراغ التعبيري، أولها رسم مستوحى من قصة كافكا (طبيب الأرياف)، وثانيها رسم مقتبس من لوحة جواد سليم (الشجرة القتيل)، وثالثها رسم من شارع القتل العراقي، ورابعها رسم خاص اسمه (القناع الأخير). إني أعوّل على تصوّر القارئ لأشكال هذه الرسوم (التخطيطات) وإضافة تفاصيل تعبيرية لها. فليتصور القارئ معي رأس الحصان المطل من النافذة في الرسم الأول منتشياً بالجرح في قصة كافكا، ورجلاً يمشي برأس مقطوع يحمله بين يديه خارجاً من صفّ من جذوع الأشجار اليابسة في الرسم الثاني، وسريراً تتناثر على شرشفه أعضاء إنسانية مبتورة من أجسادها في الرسم الثالث، ثم ليتصور معي في الرسم الرابع رجلاً بائساً يلقي بثقله على قناع معدني خلعه من وجهه وحصره بين فخذيه.أعلم بحاجتي إلى هذه المكملات التصويرية لتجسيد رؤيتي الممتنعة عن الظهور في بؤرة الفراغ الإنشائية، وقد صار واضحاً أني لا أعني سوى نفسي بهذا الالتفاف الطويل حول البؤرة التي وصفتها في بداية المقالة. لا أملك من المساحة الإنشائية إلا ما أؤكد حريتي الدودية التي تمرح في جرحها، وأنا أعلم أن للآخرين حريتهم في اختيار المساحة لكي تحفر الديدان جروحهم على هواها.
خارج العاصمة :إنشـــاء
نشر في: 17 مايو, 2010: 05:05 م