TOP

جريدة المدى > عام > الأسئلة الكبرى

الأسئلة الكبرى

نشر في: 15 ديسمبر, 2020: 11:20 م

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

بول سي. دبليو. دافيز Paul C. W. Davies : عالم فيزياء بريطاني ذائع الشهرة ، وُلِد عام 1946 ،

وحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء عام 1970 من كلية الجامعة University College في لندن ، وهو مؤلف ومقدّم برامج ، ويعمل حالياً أستاذاً جامعياً في جامعة ولاية أريزونا ومديراً لمركز BEYOND ( مركز المفاهيم الأساسية في العلم ) . تولى مناصب جامعية أخرى في جامعة كمبردج وجامعة لندن وجامعة نيوكاسل وجامعة أديلايد وجامعة ماكواري ، وتنصبّ مجالات اهتماماته البحثية في حقل الفيزياء الكونية والنظرية الكمومية وعلم الفلك البيولوجي إلى جانب اهتمامه الشامل بتأريخ العلوم وفلسفتها .

القسم الأوّل

نشر البروفسور ديفيز مايزيد على المائة ورقة بحثية في المجلات التخصصية في موضوعات الكوسمولوجيا والجاذبية ونظرية المجال الكمومي مع تأكيده الخاص على موضوعة الثقوب السوداء وأصل الكون . البروفسور ديفيز مولع كذلك بالبحث في الثقالة الكمومية ، وطبيعة الزمان ، وفيزياء جسيمات الطاقة العالية ، وأسس ميكانيك الكمّ ، وأصل الحياة ، وطبيعة الوعي .

أنتُخب البروفسور ديفيز زميلاً في الجمعية الملكية للأدب عام 1999 ، وقد حاز شهرة واسعة باعتباره كاتباً ومقدّم برامج علمية ومحاضراً لعامّة الناس .

أقدّمُ في هذا القسم - وأقسام تالية له - ترجمة لمجموعة من الأسئلة الجوهرية التي تناولها البروفسور ديفيز بالمساءلة الدقيقة ، وتمثل هذه الأسئلة الفصل الأخير من كتابي المترجم ( الأسئلة الكبرى : الفيزياء الحديثة وأحجيات الكون والوجود البشري ) الذي ألّفه البروفسور ديفيز .

المترجمة

مواجهة سرّ الوجود

ظلّ الإنسان لآلاف من السنوات يتفكّر في العالم المحيط به ولاينفكّ يطرح الأسئلة الكبرى حول الوجود : لِمَ نحنُ هنا ؟ كيف بدأ الكون ؟ وكيف سينتهي ؟ كيف تشكّل الكون ؟ ولِم هو على هذا الشكل الذي نراه ؟ . لطالما بحث الإنسان عبر تأريخه المُدوّن عن إجابات لمثل هذا الأسئلة الكبرى في ميدان الدين والفلسفة ، وقد حصل أيضاً أن جرى التصريح بأنّ مثل تلك الأسئلة خارج مجال الإدراك البشري كلياً ؛ ولكن بالرغم من ذلك فإنّ العديد من تلك الأسئلة باتت في أيامنا هذه جزءاً ( أصيلاً ) من العلم ، بل وحتى يدّعي بعض العلماء أنهم باتوا قريبين من تقديم إجابات مقبولة لها . 

أسهم تطوران علميان رئيسان في تعزيز ثقة العلماء من أنّ تلك الإجابات أصبحت دانية : الأول هو التقدم المتعاظم في الكوسمولوجيا - التي تعنى بدراسة البنية الضخمة للكون ، وتطوّره كذلك - ؛ حيث تكاتفت الملاحظات المتحصلة بواسطة الأقمار الإصطناعية مع تلك التي حصلنا عليها من مرقاب ( تلسكوب ) هابل Hubble الفضائي وسواه من الأجهزة بالغة التطوّر على الأرض لتغيّر رأينا في الكون من جهة ومكانة الإنسان فيه من جهة أخرى . أما التطوّر الثاني فهو الفهم المتزايد للعالم مادون الذري ( وهو المبحث العلمي الذي يدعى فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية High Energy Physics ) ، ويحصل الأمر في هذا المبحث بواسطة مسرّعات عملاقة للجسيمات ( كانت تدعى فيما سبق مهشّمات الذرّة ) من أمثال المسرّع الذي يوجد في مختبر فيرمي قريباً من مدينة شيكاغو ، ومختبر سيرن الواقع خارج مدينة جنيف . يقدّم الجمع بين هذين المبحثين العلميين - مبحث الأجسام فائقة الكِبَر ومبحث الأجسام فائقة الصّغَر - شواهد مدهشة على وجود روابط عميقة لم تكن معروفة لنا من قبلُ تربط العالم فائق الصغر بالعالم فائق الكبَر ، ويجد علماء الكوسمولوجيا ولعاً فائقاً في العبارة التي تفيد بأنّ الإنفجار العظيم الذي نشأ عنه الكون منذ بلايين عدة من السنوات كان أعظم تجربة ( يمكن تصوّرها ) في فيزياء الجسيمات . تشير كل هذه التطوّرات المدهشة في المباحث الفيزيائية المختلفة إلى تفاعل أكبر بكثير ممّا نتوقع ؛ فهي ليست شيئاً أقلّ من كونها وصفاً شاملاً ووحيداً للطبيعة ، وهي بمستطاعها أن تكون طريقاً إلى ( نظرية كل شيء Theory of Everything ) العتيدة النهائية الخليقة بأن تحتوي على وصف متكامل وشامل للعالم الفيزيائي بأكمله ضمن نسق مفاهيمي وحيد وفريد من نوعه .

الكون صديق للحياة

إنّ إحدى أهمّ الحقائق - وهي الحقيقة الأهم من سواها في واقع الحال - بشأن الكون هي تلك التي تفيد بأننا جزء من هذا الكون . يتوجّب أن أقول منذ البدء إنّ عدداً كبيراً للغاية من العلماء والفلاسفة يخالفون هذا الرأي ؛ فهم لايعتقدون أنّ الحياة أو الوعي أمران مهمّان بأي شكل من الأشكال في مخطّط التنظيم الكوني العظيم للأشياء ( التي يحتويها الكون ، المترجمة ) ؛ غير أنّ موقفي الشخصي برغم كلّ تلك الآراء المخالِفة هو أنني أعتبر الحياة والعقل - أي الوعي بكلمة أخرى - أمرين مهمّين لأسباب سأوضّحها في الوقت المناسب . تبدو الحياة للوهلة الأولى غير ذات شأن فيما يخصّ الكوسمولوجيا ، ومن المؤكد أنّ سطح الأرض عانى تغييرات لايمكن نكرانها بسبب نشوء الحياة عليه ؛ ولكن إذا مانظرنا إلى الكون من خلال الإمتداد العظيم للكون فلن يكون كوكبنا (الأرض ) سوى نقطة متناهية الصغر يمكن بالكاد الإحساس بها ، ومع ذلك ثمة شعور سائد - وإن كان غير مباشر - بأنّ وجود الحياة في الكون يعكس حقيقة كونية عظيمة الأهمية تقوم على أساس أنّ نشوء الحياة ومن ثمّ تطورها إلى كائنات واعية - مثلنا نحن الكائنات البشرية - يستوجب بالضرورة المحتّمة تحقيق شروط محددة ، ومن هذه الشروط المسبقة لنشوء الحياة ( أو لنقُلْ الحياة بالشكل الذي نعرفه عنها ) هو توفّر مَدَدِ كافٍ من العناصر الكيميائية المختلفة الضرورية لتخليق المادة الحية . الكاربون - كما نعرف - هو العنصر الرئيس للحياة ؛ ولكن عناصر الأوكسجين والهيدروجين والنيتروجين والكبريت والفوسفور كلها ضرورية كذلك ، والماء السائل عنصر آخر ضروري للحياة . تستلزم الحياة أيضاً مصدراً للطاقة وبيئة مستقرة قدّمتهما الشمس هبة مجانية لعالمنا ، ولأجل أن تتطور الحياة إبتداءً من المستوى المايكروسكوبي (المجهري ) البدائي البسيط فينبغي على هذه البيئة الداعمة للحياة أن تظلّ ملائمة لدعم الحياة وتبقى على هذه الحال لوقت طويل للغاية لأننا نعلم جميعاً أن الحياة ، ولكي تبلغ مرحلة الذكاء ، إستغرقت بلايين عديدة من السنوات . 

خلافاً للمستوى المجهري ، يتوجّب عند الحديث على المستوى الأكبر أن يكون الكون موغلاً في القِدَم وبارداً بما يكفي ليتيح عمل الفعاليات الكيميائية المعقدة ، ويتوجّب أن يكون الكون منطوياً على درجة مقبولة من التنظيم لكي يسمح بتشكيل المجرات والنجوم بكيفية لايمكن إعاقتها بسهولة ، ويتوجّب أيضاً أن يوجد النوع المناسب من القوى التي تعمل بين جزيئات المادة لتشكّل الذرات المستقرة والجزيئات المعقدة والكواكب والنجوم ، ولو أنّ اية خاصية أساسية من خواص الكون - إبتداءً من خواص الذرات إلى توزيع المجرات - إختلفت بمقدار حتى لو كان بالغ الضآلة عمّا نعرف فربما كان نشوء الحياة سيكون حينها أمراً مستحيلاً . والآن يمكن القول إنّ الإيفاء بتلك المتطلبات المسبقة والمختلفة لنشوء الحياة إستلزم تحقق بعض الشروط الأولية الصارمة في القوانين الرئيسة للفيزياء والتي تحكم تنظيم الكون ، وهي قوانين شديدة الصرامة بحيث سيبدو أي كون آخر مختلف عن كوننا بمقدار ضئيل في تلك المتطلبات وكأنه كون لانكاد نعرف عنه شيئاً يُذكر ، أو سيكون ( كوناً مصطنعاً ) بحسب التوصيف الدقيق للعالِم الكوسمولوجي البريطاني فريد هويل Fred Hoyle : بدا لهويل وكأنّ عقلاً فائقاً كان " يتلاعب " بقوانين الفيزياء ( عند نشأة الكون ) ، وقد كان الرجل محقاً في إعتقاده ؛ إذ يبدو الكون وكأنه صُمّم من قبل خالق عاقل قصد نشر مخلوقات عاقلة فيه ، والأمر شبيه مع ماحصل للحساء في حكاية غولديلوكس والدببة الثلاثة * حيث يبدو الكون " ملائماً تماماً " ، وبطرق معقدة وعديدة ، للحياة ، ولن يعتبر أي تفسير علمي للكون مكتملاً مالم يضع في حسبانه هذه الخصيصة من التصميم المثالي المحكم المطلوب لنشوء الحياة . 

أهمل العلماء " عامل غولديلوكس " تماماً وحتى وقت قريب ؛ لكن هذا الحال يتغيّر بسرعة ، وكما سأبيّن في الفصول القادمة بدأ العلم في نهاية الأمر بإدراك السر الكامن في تلاؤم الكون بشكل عفوي ليدعم نشوء الحياة ، ويقتضي فهم هذا الأمر الدراسة المعمقة لاسئلة علىى شاكلة : كيف بدأ الكون ؟ وكيف تطوّر إلى شكله الحالي ؟ ومن أي شيء صنِعت المادة ، وكيف تشكّلت وانبثقت إلى الوجود بفعل القوى المختلفة في الطبيعة ؟ ولكن قبل كل هذا يتوجّب الأمر منّا إستكشاف الطبيعة الأساسية لقوانين الفيزياء .

*غولديلوكس والدببة الثلاثة Goldilocks and the Three Bears : واحدة من أهم حكايات الجنيات في الادب الإنكليزي ، كتبها الكاتب والشاعر الإنكليزي ( روبرت سوثي Robert Southey ) ونُشرت عام 1837 عقب موته . ( المترجمة )

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

علم القصة - الذكاء السردي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

عدد خاص للأقلام عن القصة القصيرة بعد ثلاثة عقود على إصدار عدد مماثل

ليلة مع إيمي

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

مقالات ذات صلة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب
عام

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

بلقيس شرارةولد بدر شاكر السياب في قرية "جيكور" في محافظة البصرة، في جنوب العراق، وقد توفيت والدته عندما كان في سن السادسة من عمره، إذ كان لوفاتها أثر عميق في حياته، بل كان هذا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram