ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
بول سي. دبليو. دافيز Paul C. W. Davies : عالم فيزياء بريطاني ذائع الشهرة ، وُلِد عام 1946 ،
وحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء عام 1970 من كلية الجامعة University College في لندن ، وهو مؤلف ومقدّم برامج ، ويعمل حالياً أستاذاً جامعياً في جامعة ولاية أريزونا ومديراً لمركز BEYOND ( مركز المفاهيم الأساسية في العلم ) . تولى مناصب جامعية أخرى في جامعة كمبردج وجامعة لندن وجامعة نيوكاسل وجامعة أديلايد وجامعة ماكواري ، وتنصبّ مجالات اهتماماته البحثية في حقل الفيزياء الكونية والنظرية الكمومية وعلم الفلك البيولوجي إلى جانب اهتمامه الشامل بتأريخ العلوم وفلسفتها .
القسم الأوّل
نشر البروفسور ديفيز مايزيد على المائة ورقة بحثية في المجلات التخصصية في موضوعات الكوسمولوجيا والجاذبية ونظرية المجال الكمومي مع تأكيده الخاص على موضوعة الثقوب السوداء وأصل الكون . البروفسور ديفيز مولع كذلك بالبحث في الثقالة الكمومية ، وطبيعة الزمان ، وفيزياء جسيمات الطاقة العالية ، وأسس ميكانيك الكمّ ، وأصل الحياة ، وطبيعة الوعي .
أنتُخب البروفسور ديفيز زميلاً في الجمعية الملكية للأدب عام 1999 ، وقد حاز شهرة واسعة باعتباره كاتباً ومقدّم برامج علمية ومحاضراً لعامّة الناس .
أقدّمُ في هذا القسم - وأقسام تالية له - ترجمة لمجموعة من الأسئلة الجوهرية التي تناولها البروفسور ديفيز بالمساءلة الدقيقة ، وتمثل هذه الأسئلة الفصل الأخير من كتابي المترجم ( الأسئلة الكبرى : الفيزياء الحديثة وأحجيات الكون والوجود البشري ) الذي ألّفه البروفسور ديفيز .
المترجمة
مواجهة سرّ الوجود
ظلّ الإنسان لآلاف من السنوات يتفكّر في العالم المحيط به ولاينفكّ يطرح الأسئلة الكبرى حول الوجود : لِمَ نحنُ هنا ؟ كيف بدأ الكون ؟ وكيف سينتهي ؟ كيف تشكّل الكون ؟ ولِم هو على هذا الشكل الذي نراه ؟ . لطالما بحث الإنسان عبر تأريخه المُدوّن عن إجابات لمثل هذا الأسئلة الكبرى في ميدان الدين والفلسفة ، وقد حصل أيضاً أن جرى التصريح بأنّ مثل تلك الأسئلة خارج مجال الإدراك البشري كلياً ؛ ولكن بالرغم من ذلك فإنّ العديد من تلك الأسئلة باتت في أيامنا هذه جزءاً ( أصيلاً ) من العلم ، بل وحتى يدّعي بعض العلماء أنهم باتوا قريبين من تقديم إجابات مقبولة لها .
أسهم تطوران علميان رئيسان في تعزيز ثقة العلماء من أنّ تلك الإجابات أصبحت دانية : الأول هو التقدم المتعاظم في الكوسمولوجيا - التي تعنى بدراسة البنية الضخمة للكون ، وتطوّره كذلك - ؛ حيث تكاتفت الملاحظات المتحصلة بواسطة الأقمار الإصطناعية مع تلك التي حصلنا عليها من مرقاب ( تلسكوب ) هابل Hubble الفضائي وسواه من الأجهزة بالغة التطوّر على الأرض لتغيّر رأينا في الكون من جهة ومكانة الإنسان فيه من جهة أخرى . أما التطوّر الثاني فهو الفهم المتزايد للعالم مادون الذري ( وهو المبحث العلمي الذي يدعى فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية High Energy Physics ) ، ويحصل الأمر في هذا المبحث بواسطة مسرّعات عملاقة للجسيمات ( كانت تدعى فيما سبق مهشّمات الذرّة ) من أمثال المسرّع الذي يوجد في مختبر فيرمي قريباً من مدينة شيكاغو ، ومختبر سيرن الواقع خارج مدينة جنيف . يقدّم الجمع بين هذين المبحثين العلميين - مبحث الأجسام فائقة الكِبَر ومبحث الأجسام فائقة الصّغَر - شواهد مدهشة على وجود روابط عميقة لم تكن معروفة لنا من قبلُ تربط العالم فائق الصغر بالعالم فائق الكبَر ، ويجد علماء الكوسمولوجيا ولعاً فائقاً في العبارة التي تفيد بأنّ الإنفجار العظيم الذي نشأ عنه الكون منذ بلايين عدة من السنوات كان أعظم تجربة ( يمكن تصوّرها ) في فيزياء الجسيمات . تشير كل هذه التطوّرات المدهشة في المباحث الفيزيائية المختلفة إلى تفاعل أكبر بكثير ممّا نتوقع ؛ فهي ليست شيئاً أقلّ من كونها وصفاً شاملاً ووحيداً للطبيعة ، وهي بمستطاعها أن تكون طريقاً إلى ( نظرية كل شيء Theory of Everything ) العتيدة النهائية الخليقة بأن تحتوي على وصف متكامل وشامل للعالم الفيزيائي بأكمله ضمن نسق مفاهيمي وحيد وفريد من نوعه .
الكون صديق للحياة
إنّ إحدى أهمّ الحقائق - وهي الحقيقة الأهم من سواها في واقع الحال - بشأن الكون هي تلك التي تفيد بأننا جزء من هذا الكون . يتوجّب أن أقول منذ البدء إنّ عدداً كبيراً للغاية من العلماء والفلاسفة يخالفون هذا الرأي ؛ فهم لايعتقدون أنّ الحياة أو الوعي أمران مهمّان بأي شكل من الأشكال في مخطّط التنظيم الكوني العظيم للأشياء ( التي يحتويها الكون ، المترجمة ) ؛ غير أنّ موقفي الشخصي برغم كلّ تلك الآراء المخالِفة هو أنني أعتبر الحياة والعقل - أي الوعي بكلمة أخرى - أمرين مهمّين لأسباب سأوضّحها في الوقت المناسب . تبدو الحياة للوهلة الأولى غير ذات شأن فيما يخصّ الكوسمولوجيا ، ومن المؤكد أنّ سطح الأرض عانى تغييرات لايمكن نكرانها بسبب نشوء الحياة عليه ؛ ولكن إذا مانظرنا إلى الكون من خلال الإمتداد العظيم للكون فلن يكون كوكبنا (الأرض ) سوى نقطة متناهية الصغر يمكن بالكاد الإحساس بها ، ومع ذلك ثمة شعور سائد - وإن كان غير مباشر - بأنّ وجود الحياة في الكون يعكس حقيقة كونية عظيمة الأهمية تقوم على أساس أنّ نشوء الحياة ومن ثمّ تطورها إلى كائنات واعية - مثلنا نحن الكائنات البشرية - يستوجب بالضرورة المحتّمة تحقيق شروط محددة ، ومن هذه الشروط المسبقة لنشوء الحياة ( أو لنقُلْ الحياة بالشكل الذي نعرفه عنها ) هو توفّر مَدَدِ كافٍ من العناصر الكيميائية المختلفة الضرورية لتخليق المادة الحية . الكاربون - كما نعرف - هو العنصر الرئيس للحياة ؛ ولكن عناصر الأوكسجين والهيدروجين والنيتروجين والكبريت والفوسفور كلها ضرورية كذلك ، والماء السائل عنصر آخر ضروري للحياة . تستلزم الحياة أيضاً مصدراً للطاقة وبيئة مستقرة قدّمتهما الشمس هبة مجانية لعالمنا ، ولأجل أن تتطور الحياة إبتداءً من المستوى المايكروسكوبي (المجهري ) البدائي البسيط فينبغي على هذه البيئة الداعمة للحياة أن تظلّ ملائمة لدعم الحياة وتبقى على هذه الحال لوقت طويل للغاية لأننا نعلم جميعاً أن الحياة ، ولكي تبلغ مرحلة الذكاء ، إستغرقت بلايين عديدة من السنوات .
خلافاً للمستوى المجهري ، يتوجّب عند الحديث على المستوى الأكبر أن يكون الكون موغلاً في القِدَم وبارداً بما يكفي ليتيح عمل الفعاليات الكيميائية المعقدة ، ويتوجّب أن يكون الكون منطوياً على درجة مقبولة من التنظيم لكي يسمح بتشكيل المجرات والنجوم بكيفية لايمكن إعاقتها بسهولة ، ويتوجّب أيضاً أن يوجد النوع المناسب من القوى التي تعمل بين جزيئات المادة لتشكّل الذرات المستقرة والجزيئات المعقدة والكواكب والنجوم ، ولو أنّ اية خاصية أساسية من خواص الكون - إبتداءً من خواص الذرات إلى توزيع المجرات - إختلفت بمقدار حتى لو كان بالغ الضآلة عمّا نعرف فربما كان نشوء الحياة سيكون حينها أمراً مستحيلاً . والآن يمكن القول إنّ الإيفاء بتلك المتطلبات المسبقة والمختلفة لنشوء الحياة إستلزم تحقق بعض الشروط الأولية الصارمة في القوانين الرئيسة للفيزياء والتي تحكم تنظيم الكون ، وهي قوانين شديدة الصرامة بحيث سيبدو أي كون آخر مختلف عن كوننا بمقدار ضئيل في تلك المتطلبات وكأنه كون لانكاد نعرف عنه شيئاً يُذكر ، أو سيكون ( كوناً مصطنعاً ) بحسب التوصيف الدقيق للعالِم الكوسمولوجي البريطاني فريد هويل Fred Hoyle : بدا لهويل وكأنّ عقلاً فائقاً كان " يتلاعب " بقوانين الفيزياء ( عند نشأة الكون ) ، وقد كان الرجل محقاً في إعتقاده ؛ إذ يبدو الكون وكأنه صُمّم من قبل خالق عاقل قصد نشر مخلوقات عاقلة فيه ، والأمر شبيه مع ماحصل للحساء في حكاية غولديلوكس والدببة الثلاثة * حيث يبدو الكون " ملائماً تماماً " ، وبطرق معقدة وعديدة ، للحياة ، ولن يعتبر أي تفسير علمي للكون مكتملاً مالم يضع في حسبانه هذه الخصيصة من التصميم المثالي المحكم المطلوب لنشوء الحياة .
أهمل العلماء " عامل غولديلوكس " تماماً وحتى وقت قريب ؛ لكن هذا الحال يتغيّر بسرعة ، وكما سأبيّن في الفصول القادمة بدأ العلم في نهاية الأمر بإدراك السر الكامن في تلاؤم الكون بشكل عفوي ليدعم نشوء الحياة ، ويقتضي فهم هذا الأمر الدراسة المعمقة لاسئلة علىى شاكلة : كيف بدأ الكون ؟ وكيف تطوّر إلى شكله الحالي ؟ ومن أي شيء صنِعت المادة ، وكيف تشكّلت وانبثقت إلى الوجود بفعل القوى المختلفة في الطبيعة ؟ ولكن قبل كل هذا يتوجّب الأمر منّا إستكشاف الطبيعة الأساسية لقوانين الفيزياء .
*غولديلوكس والدببة الثلاثة Goldilocks and the Three Bears : واحدة من أهم حكايات الجنيات في الادب الإنكليزي ، كتبها الكاتب والشاعر الإنكليزي ( روبرت سوثي Robert Southey ) ونُشرت عام 1837 عقب موته . ( المترجمة )