TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > مكاشفة :إعـادة تـأهـيــل

مكاشفة :إعـادة تـأهـيــل

نشر في: 17 مايو, 2010: 05:16 م

كاظم الجماسي حدثني صديق كان قد هرب بجلده إبان تسعينيات القرن المنصرم من بطش أجهزة الطاغية المقبور إلى احد البلدان الأوروبية، وكان قبل ذلك قضى أكثر من خمسة عشر عاما وجها لوجه مع الموت جنديا على جبهات القتال، ومن ثم أضيفت لها ثلاث سنوات اخرى في غياهب الشعبة الخامسة،
من دون ذنب او جريرة سوى كونه عراقي اولا وان لديه اخا اعدمه النظام بتهمة الانتماء إلى تنظيمات مناهضة للحزب والثورة.. حدثني قال: ما أن وصلت محطة اللجوء الأخيرة بعد ما لا يوصف من المهانات من عوز وجوع وسوء معاملة في الاردن الشقيق بانتظار الموافقة على طلب اللجوء الذي تككل بوصولي الى هولندا، كنت قد غدوت هيكلا عظميا حقيقيا، كنت ازن حينها 45 كيلو غرام فقط، قررت السلطات الصحية بعد الفحص ضرورة رقودي في مصحة من اجل اعادة التأهيل، وقد فوجئت هناك بما لم اكن أتخيله او احلم به من رعاية واهتمام أنساني منقطع النظير، كان هناك طاقم صحي كامل من اطباء وممرضين وعمال يديمون تقديم شتى الخدمات على مدار الساعة، ولكن النتائج كانت تشير الى ان ما أعانيه لم يكن ابدا خللا عضويا على الإطلاق، الأمر الذي جعل المسؤولين عن المصحة تحويلي الى عيادة للطب النفسي، وهناك وجدت رعاية واهتماما مشابهين لما لقيتهما في المصحة الأولى، وبعد جلسات وجلسات قرر الطبيب المعالج ان لا سبيل  لعلاجي سريعا مبررا ذلك بتراكم ضخم (لخبرات مؤلمة) ولزمن طويل ليس سهلا الخلاص منها في زمن يسير، ولذا قرر عيادته دوريا بين اونة وأخرى، مع توصيات بممارسة حياتي اليومية في ظروف عيش تكاد تكون سياحية..وهنا سألته: وهل تعافيت تماما؟ اجاب على الفور: صحتي أصبحت(عال العال) ازن اليوم 75 كيلو غرام، غير ان جروح الماضي مازالت حلوقها مفتوحة، ليس بسبب قسوة الماضي فقط، اذ خففت كثيرا من غلوائها تفاصيل عيشي في هولندا، ولكن  لما اراه من مشهد يومي فاجع يعيشه اهلي في الوطن..      مناسبة هذه الحكاية السؤال الشاخص في ذهن العراقيين جميعهم: ألم نكتف من هول المصائب كل ذلك الزمن الطويل الذي مر علينا؟ اما آن أن تتوقف( موسوعة العذاب) لهذا الشعب المكابد والتي ابتدأت منذ ما لا يقدر من السنين ولم تنته حتى اللحظة؟كل من يتصدى من اهل القلم العراقيين، اليوم بشتى تواصيفهم لأن يكتب، وهذا ما أنا موقن منه، شيئا يعنى بالمستقبل ثيمة او استشرافات بنحو تفوح منه رائحة التفاؤل، سيعود ناكصا، لا لشيء الا لكونه غير قادر على القفز فوق جبال غاطسة من الهموم والمآسي في قرارة لاوعيه اوعقله الباطني، هذا من جهة ومن الجهة الاخرى هناك أنماط  مكرسة باتت اليات أساسية في (لغات) التعبير العراقية، شعرا ونثرا وموسيقى، ومن ثم تحولت الى مصدات أمام كل توق مستقبلي استشرافي، هذا طبعا عدا ركام الماضي السحيق من المظلوميات التاريخية، والتركات اللغوية العربية، لعل في المقدمة من هذه الاخيرة الأدبيات الدينية على اختلاف اشتغالاتها نص وحديث وسنة وتاريخ وفقه وغيرها... وراح العراقي يتساءل هل ان ما يجعل حلوق جروحه فاغرة حتى هذه الساعة، عاهة نفسية في روحه وعقله، ام ان حمله المأساوي ثقيل وضخم لدرجة أمسى مهيمنة دائمة، على الرغم من ان الخلاص المنشود تحقق له من ربقة الاستبداد البغيضة؟في اية حال يعرف العراقي ان حلمه العظيم في الخلاص الكامل من ذيول الاستبداد أمسى منقوصا، ما جعل الخيبة عظيمة عمقت جروحه وأضافت إليها جروح جديدة، وبدلا من قيام بعض (أولي الأمر) بتضميد تلك الجروح، كيما يعاد تأهيل النفوس قبل التروس كما يقال، انشغلوا بسفاسف تعني أنواتهم الضحلة، وخذلوا الناس ايما خذلان.Kjamasi59@yahoo.com

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram