د. نادية هناوي
يُخطئ من يظن أنّ نازك الملائكة الشاعرة هي غيرها نازك الملائكة الناقدة، ذلك أنّ مشروعها الانقلابي يظل واحداً سواءً في الثورة على نظام القصيدة العروضي أو في تحديث مناهج النقد العربي.
وإذا كانت قصيدتها الكوليرا التي نُشرت في مجلة العروبة في كانون الاول 1947 قد أكدت ريادتها الشعرية؛ فإن كتابها (قضايا الشعر المعاصر) كان قد أكد ريادتها النقدية. وليس هذا بغريب على شاعرة ما كانت تصدر ديواناً شعرياً إلا تدشنه بمقدمة نقدية هي بمثابة بيان شعري تتحمل فيه مسؤولية التبشير بالشعر الجديد والمثال الأسطع على ذلك مقدمتها التنظيرية لديوانها( شظايا ورماد).
ولقد داومت على نهجها التحديثي هذا أيضاً في ديوانها(قرارة الموجة) ثم عززته بالتنظير للقصيدة العربية لتكون اختلافيتها عن سائر مجايليها متحققة بريادتين: ريادة الشعر وريادة النقد اللتين لا انفصال بينهما كونهما اندرجتا في مشروع واحد فيه امتلكت نازك الملائكة مقصدية النظر الفكري جامعة دراسة الشعر كبنية وهيكل بدراسة الظواهر الاجتماعية والنفسية والثقافية.
وبهاتين الريادتين يكون عمر الملائكة الإبداعي قد اكتمل ما بين نهاية الاربعينيات ومنتصف الستينيات وفيه قطعت أشواطاً نسوية وحداثية في الشعر والنقد ونقد النقد، أيماناً منها بأن اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية.
ولأن حداثة نازك الملائكة الشعرية والنقدية هي في حقيقتها حداثة نسوية أشرك مؤرخو الأدب العربي معها السياب وعبد الوهاب البياتي وشاذل طاقة وبلند الحيدري؛ من باب أن خرق ثوابت المنظومة الثقافية الرسمية على يد رجال لن يضر مركزيتها أو يؤثر في هيمنتها الذكورية مثلما يضرها أن تخترق قواعدها امرأة حتى وإن كانت هذه المرأة قد امتلكت مقومات الريادة بالابتكار والقصدية والمداومة وكانت وحدها ذات نظر في فلسفة الشعر الحر، تمثل أول ما تمثل في دراستها( أساليب التكرار في الشعر).
ولقد خضع أغلب النقاد لهذه المركزية الذكورية فقللوا من شأن التنظير الذي جاءت به نازك، ومنهم الناقد عبد الجبار البصري الذي ألف كتاباً عن نازك لا ليعترف لها بالريادة؛ بل لينفيها عنها عاداً مفاضلاتها للشعر الحر على العمودي غير موضوعية، متعسفاً في توصيف اهتمامها بالشعر الحر بأنه عبارة عن عاطفة أم أرادت لوليدها( أن يتجنب مزالق خطيرة بلغة تربوية ناصحة) مخطئاً في تقدير تنظيرات نازك التي بها أرادت قطع الطريق على أولئك الذين يستسهلون كتابة قصيدة الشعر الحر، ففهمه للأسف على أنه ارتداد أو انكفاء.
ومثله جلال الخياط الذي تهكم ممن يكتب هذا الشعر مبيناً أن لا نسبة عربية لهذا الشعر لأن نشأته تعود إلى الأوربيين ممن عرفوا الشعر الحر مثل ملتن ولافونتين، متناسياً ما أحدثه مشروع الملائكة الشعري من رد فعل عنيف في الأوساط الأدبية وبسببها اُنتقدت نقداً شديداً لكن دعوتها مع ذلك راحت تنمو فاستجاب لها الشعراء الشباب فأصدرت هي (شظايا ورماد) عام 1949 وفيه مجموعة من القصائد الحرة وتلته في عام 1950 ثلاثة دواوين هي: ملائكة وشياطين لعبد الوهاب البياتي والمساء الأخير لشاذل طاقة وديوان أساطير للسياب.
ولا نستثني من هؤلاء النقاد الخاضعين للمركزية الذكورية سوى الناقد العراقي عبد الجبار عباس الذي عد (مقدمة) ديوان(شظايا ورماد) الصادر عام 1949 انعطافة في مسيرة الأدب تشبه مقدمة المرزوقي لديوان الحماسة لابي تمام أو مقدمة قصائد ورزدورث. ومع أنه لم يصرح بريادة نازك الفردية للشعر الحر فإنه ألمح الى ذلك ضمنياً حين ناقش ما جاءت به من نظام عروضي للقصيدة العربية راداً على المشككين بالقول : إذا كنا نشكك في سلامة استقراء نازك فحري بنا أن نشكك في قوانين الخليل نفسها ؟! واصفاً كتابها (قضايا الشعر المعاصر ) بأنه (دليل ناصع على ما بلغه النقد العربي المعاصر من الدقة والعلمية وستبقى قوانينه العروضية دستوراً ينبغي على كل من يكتب الشعر الحر أن يستفيد منها ويقوم على هداها) ولا يختلف الأمر حين نقف عند ريادة نازك الملائكة النقدية؛ إذ لا اعتراف بها إلا ضمنياً كأن يأتي الاعتراف في معرض مساواة أحدهم بتجربة نازك كما فعلت سلمى الخضراء الجيوسي حين أرادت جعل فدوى طوقان في كفة واحدة مع نازك الملائكة أو يأتي الاعتراف بشكل عرضي كما فعل د. صلاح فضل حين عد كتابها (قضايا الشعر المعاصر) من التجارب المبكرة في النقد البنيوي العربي لكنه لم يقل أكثر من ذلك وهو الذي وضع كتاباً في النظرية البنائية ترجم فيه نصوص الشكلانيين والبنيويين وكان حرياً به أن يعترف لنازك بالريادة في دراسة القصيدة وظواهرها الإيقاعية.
والمدهش أن عبد الجبار عباس استقرأ هذه الريادة وأكدها، ولم يكن قد مضى على صدور الكتاب أكثر من عامين منطلقاً من عقلية نقدية واعية وموهبة أصيلة في مقاله الموسوم( حول نقد قضايا الشعر المعاصر) المنشور في مجلة الآداب، العدد السادس عام 1963 وفيه تأسف أن هذا الكتاب لم يقابل كأول دراسة منهجية جادة عن الشعر الحر، وفيها جهد يستحق التقييم والانصاف، مقسماً الكتاب الى قسم نقدي محض ويشمل( قصيدة النثر وهيكل القصيدة والتكرار والصلة بين الشعر والحياة ومزالق النقد المعاصر) وقسم عروضي هو أقرب الى التاريخ المقنن بدراسة ذوقية محضة متسائلاً باستنكار: فمن غير السيدة نازك الملائكة من نقادنا المعاصرين من تناول هذه الموضوعات الدقيقة بمثل هذا العمق والرصانة؟
وما تظهره لنا اليوم كشوفات النقد العالمي الراهن من تداخل وتآصر تدفعنا الى أن نمعن النظر في إرث نازك الملائكة من جديد لنعرف كيف أن فرادتها النقدية فتحت أمامها أبواب ممارسة النقد الثقافي فاندمجت لديها نظرية الشعر بنظريات النقد ولم ينفصل نقدها للبنية الشعرية عن نقدها الثقافي لموضوعة المرأة والمجتمع والأخلاق، لتكون أول امرأة يمكن أن توصف بأنها ناقدة ثقافية.
وبالرغم من هذا الكم الكبير الذي كتب عن شعر نازك الملائكة ونقدها؛ فإن لا التفات بحثياً الى الملائكة كناقدة ثقافية تعدت في مرحلة مبكرة منطقة النقد الى منطقة الفلسفة لتكون الناقدة المفكرة التي حملها نزوعها التحديثي إلى الجمع بين منهج ينغلق على البنية ومنهج ينفتح بها على ما حولها من سياقات.
وكما أن تحديثها الشعري لم يكن لينفي جذور القصيدة العمودية؛ فإن تحديثها النقدي انفتح على مواضعات جديدة ولم يتقوقع على البنية وحدها ففي دراستها( المرأة بين الطرفين: السلبية والأخلاق) المنشور في مجلة الآداب العدد الثاني عشر عام 1953 داخلت نازك النظر الاجتماعي والنفسي والديني والميثولوجي بالنظر الأدبي مؤكدة ضرورة الارتفاع بالمرأة من كونها موضوعاً عاطفياً الى أن تكون موضوعاً فكرياً يعالج معالجة منطقية.
وجعلت نازك المرأة في مقدمة عوائق النسوية التي تحول دون أن تصل إلى مرتبة الوعي الثقافي الكامل مشخصة ما سمته( التغطية السايكولوجية) كظاهرة اجتماعية فيها المتعلمات ذوات كبرياء وحساسية تمنعهن من تحرير أنفسهن من سيطرة الآخرين عليهن. والرجل عائق ثان حين يعتقد أن تحرر المرأة يسلبه جانباً من حريته على أساس أن حرية الرجل هي عبودية المرأة وحرية المرأة هي عبودية الرجل. وتاريخ المرأة عائق ثالث فهو تاريخ العبودية الإنسانية التي فيها فقدت المرأة تدريجياً كل ما تملك حتى قيمتها الإنسانية بعكس ما كانت تمارسه الشعوب البدائية من تأليه الإناث وأن (الإله فيما يلوح لم يكتسب صفته المذكرة إلا فيما تمدن الإنسان وكون المجتمعات) وقد حفظ التاريخ اسماء كثيرة من الآلهة المؤنثة التي عبدتها هذه الشعوب.
أما العائق الرابع فهو التراتبية التي فيها الأب أهم من الأم والسيدة المتزوجة أهم من الفتاة الانسة لتكون( قيمة المرأة في عرف المجتمع ليست بشخصيتها وثقافتها وسلوكها وإنما تأتيها هبة من زوجها) والعرف عائق خامس يستهين بالمرأة وهو القانون الغفل الناجم عن تراكم العادات عبر العصور والعائق السادس الأخلاق التي تجعل كل امرأة تشبه امرأة أخرى مؤكدة أن الأخلاق اختيار وليست تقييداً يفقد الإنسان لذة الشعور بالاختيار وأن لا أخلاق إلا مع الحرية التي تنتج الشخصية و( كلما كان الخلق الإنساني إلزامياً قل ميل المجتمع الى اعتباره فضيلة) وبسبب الإلزام لم تبلغ المرأة العربية بعد مرتبة يحق لنا فيها أن نصدر عليها أحكاماً اخلاقية، إذ لا أخلاق يملكها من لا حرية له وتتساءل نازك في النهاية: ( أ فلم يحن لهذه الملايين من النساء أن تقف وتطلب إلى المجتمع أن يمنحها الحق في تكوين أخلاقها)
وعن تقسيم العمل بين المرأة والرجل تقول :" إن مجال المرأة أشبه بمناطق في العقل البشري لم تكتشف بعد ولم تستغل انها قارة كاملة جديدة ..إنها طاقة ركبتها الطبيعة في الانسان"
ومن الظواهر التي تصب في باب النقد الثقافي دراستها للتقلقل الفكري في بحثها الموسوم( التجزيئية في المجتمع العربي) المنشور في مجلة الآداب العدد الخامس عام 1954 وقصدت بالتجزيئية( الجنوح في عزل الظواهر عن بعضها ودراستها مفصولة وكأننا نفترض أن حياتنا تتكون من مجموعة من المجالات المتضاربة التي اجتمعت مصادفة في خليط. وأننا بدلاً من أن ندرس مشاكلنا باعتبارها محصلة لمختلف القوى نعمل على عزل هذه القوى عزلاً قاطعاً فنتناول اللغة وكأنها عنصر مفصول عن الدين ونرى السياسة كياناً منفصلاً عن قضايا الفن ويخيل إلينا أن العلوم دائرة معارضة لدائرة الآداب) هذا إلى جانب دراساتها لظواهر فكرية ولغوية واجتماعية أخرى نلمس فيها أفقاً ثقافياً متفتحاً كدراستها لظاهرة التضخيم وظاهرة التكلس والتقديس وظاهرة التعويض، وكلها تدلل على ريادة نسوية لحقل النقد الثقافي في وقت كانت ريادة ممارسة هذا النقد مقصورة على بعض النقاد والباحثين العرب المعروفين ممن سبقوها أو جايلوها كطه حسين وعلي الوردي مثلاً.