حيدر المحسن
من معاني كلمة عادي في القاموس: البسيط، والمألوف. هذا العمود الأسبوعي يختصّ إذن بكلام سهل لا يوجد فيه تعمّل في الصياغة, ولا تحجّر في الأفكار. مقالات في النقد الأدبي يحاول كاتبها أن يكون قريباً من النصّ بصورة لا تعطيه الحقّ في أن يقدّم حلولاً مطلقة, ولا نهايات أخيرة.
إنها قراءة في الأدب وليس في الحياة. لكن النصّ الأدبيّ ما هو إلّا كوناً مصغّراً بعض الكلمات فيه مائية الطبع, وبعضها ناريّة, وأخرى ترابية, وعلى الناقد أن يضع يده على كلّ منها, يتحسسها, ويقوّم الحيّ منها عندما يراها تتنفس الهواء.
في الأدب تكون الحياة في الصورة, وفي نقد الأدب يكوّن الصورة الاثنان, الحياة والأدب, وهنالك واسطتان لا غير تساعدان الناقد في العمل, شدة الوعي بالذات, واستقاء كل ما يريد من ينابيع النفس الداخلية, وهذا فيض ثان من المدّ الأول نفسه.
الظروف المغايرة تصنع أدباً مغايراً, وتحتاج في نفس الوقت إلى مصطلحات جديدة في النقد. وكما أن لغة الشعر والقصّ تتغيران بمرور السنين, فإن لغة المقال في النقد تختلف بالضرورة عن السابق. أن تتعلّم من الكتب القديمة يعني أن تستعمل الفأس في التحطيب, وإذا حاول الناقد تقليد نفس اللغة فإن الأمر يشبه رسم قبضة الفأس بواسطة الفأس.
أنشد شاعر صينيّ هذه القصيدة:
"أجلس وأستمع لآلة القانون على السرير الغربي:
وتران أو ثلاثة يتقطعّان من البرد"
قال الناقد عنها: "هذه القصيدة تُظهر بأن الجوع, كالبرد, لا يمكن احتماله".
القصيدة أو القصة التي تُكتب ضمن شروط ما يُدعى بالحداثة يحجبها دوماً عن القارئ زجاج مضبٌّ تبين الحروف من ورائه, ولا تبين. مهمة الناقد هي إزالة الأستار وكشف المخفيّ من المعنى من أجل تقديم العمل الفني ناصعا إلى القارئ.
هناك تفاوت مسموح به في الجودة بين أعمال الكتّاب, ولكن لا يجوز أن يكون هناك اختلاف في الصنعة. كما أن النظرة إلى الكاتب ليست شديدة الاختزال حتى تشمل ما قدّمه من عطاء فقط, بل هي تضمّ كذلك الطريقة في العيش, وما يحمله من أفكار ومعتقدات, وما تختطّه له الحياة من هواجس واستيهامات وتصوّرات قسرية, مما ينعكس في عطائه. إذا لم يتمرّن عازف الموسيقى يومياً, فسيعرف هو ذلك, وإذا لم يتمرّن ليومين, فسيعرف النقاد ذلك, وبعد ثلاثة أيام, سيعرف الجمهور ذلك. بمعنى أن الناقد الأول والأهمّ لكلّ عمل فنيّ يريد له صاحبه الحياة الدائمة هو الكاتب نفسه. وتتحدّد جودة الكتابة من مرحلة النضج التي يبلغها الناقد الضمني, أو الذاتي.
النصّ الأدبيّ كونٌ مصغّر بدليل أن تركيب الجملة نحوياً وبلاغياً يتبع نظاماً يشبه إلى حدّ بعيد ترتيب العناصر الكيميائية في جدول مندليف الدوري, وكان هذا العالم يستعمل في عمله نظاماً يماثل ثمانيات السلم الموسيقي. لاحظ مندليف, ومعه آخرون, أن العناصر التي تتشابه في خواصها الفيزيائية وتتقارب في أوزانها الذرية تتواجد في الطبيعة بصورة تكرارية من ثمانية عناصر حسب وزنها الذري. الصلة بين الواقع والخلق, والتجربة والأدب جعلت عالماً يعيش في زمن آخر يتوصّل إلى نتيجة قريبة, هو الإمام عبد القاهر الجرجاني, قال في دلائل الإعجاز: ((حتى إذا وازنت بين كلام وكلام دريت كيف تصنع, فضممت إلى كل شكل شكله, وقابلته بما هو نظير له, وميّزت ما الصنعة منه في لفظه, مما هي منه من نظمه)). الموازنة في التركيب والمناظرة في الترتيب تساوق في المعنى وفي المبنى ثمانيات السلم الموسيقي.
بقي شيء أخير لا بدّ من ذكره. النقد الذي لا يحمل صفات كاتبه ومزاجه وطريقة تفكيره لا يستحق أن يتوقف عنده قارئ أيٌّ كان نوعه.
الأدب كونٌ مصغّرٌ, وقراءته حياة أخرى نعيشها.