اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: (كونٌ مصغّر)

كلامٌ عاديٌّ جداً: (كونٌ مصغّر)

نشر في: 22 ديسمبر, 2020: 07:00 م

 حيدر المحسن

من معاني كلمة عادي في القاموس: البسيط، والمألوف. هذا العمود الأسبوعي يختصّ إذن بكلام سهل لا يوجد فيه تعمّل في الصياغة, ولا تحجّر في الأفكار. مقالات في النقد الأدبي يحاول كاتبها أن يكون قريباً من النصّ بصورة لا تعطيه الحقّ في أن يقدّم حلولاً مطلقة, ولا نهايات أخيرة.

إنها قراءة في الأدب وليس في الحياة. لكن النصّ الأدبيّ ما هو إلّا كوناً مصغّراً بعض الكلمات فيه مائية الطبع, وبعضها ناريّة, وأخرى ترابية, وعلى الناقد أن يضع يده على كلّ منها, يتحسسها, ويقوّم الحيّ منها عندما يراها تتنفس الهواء. 

في الأدب تكون الحياة في الصورة, وفي نقد الأدب يكوّن الصورة الاثنان, الحياة والأدب, وهنالك واسطتان لا غير تساعدان الناقد في العمل, شدة الوعي بالذات, واستقاء كل ما يريد من ينابيع النفس الداخلية, وهذا فيض ثان من المدّ الأول نفسه.

الظروف المغايرة تصنع أدباً مغايراً, وتحتاج في نفس الوقت إلى مصطلحات جديدة في النقد. وكما أن لغة الشعر والقصّ تتغيران بمرور السنين, فإن لغة المقال في النقد تختلف بالضرورة عن السابق. أن تتعلّم من الكتب القديمة يعني أن تستعمل الفأس في التحطيب, وإذا حاول الناقد تقليد نفس اللغة فإن الأمر يشبه رسم قبضة الفأس بواسطة الفأس.

أنشد شاعر صينيّ هذه القصيدة:

"أجلس وأستمع لآلة القانون على السرير الغربي:

وتران أو ثلاثة يتقطعّان من البرد"

قال الناقد عنها: "هذه القصيدة تُظهر بأن الجوع, كالبرد, لا يمكن احتماله".

القصيدة أو القصة التي تُكتب ضمن شروط ما يُدعى بالحداثة يحجبها دوماً عن القارئ زجاج مضبٌّ تبين الحروف من ورائه, ولا تبين. مهمة الناقد هي إزالة الأستار وكشف المخفيّ من المعنى من أجل تقديم العمل الفني ناصعا إلى القارئ.

هناك تفاوت مسموح به في الجودة بين أعمال الكتّاب, ولكن لا يجوز أن يكون هناك اختلاف في الصنعة. كما أن النظرة إلى الكاتب ليست شديدة الاختزال حتى تشمل ما قدّمه من عطاء فقط, بل هي تضمّ كذلك الطريقة في العيش, وما يحمله من أفكار ومعتقدات, وما تختطّه له الحياة من هواجس واستيهامات وتصوّرات قسرية, مما ينعكس في عطائه. إذا لم يتمرّن عازف الموسيقى يومياً, فسيعرف هو ذلك, وإذا لم يتمرّن ليومين, فسيعرف النقاد ذلك, وبعد ثلاثة أيام, سيعرف الجمهور ذلك. بمعنى أن الناقد الأول والأهمّ لكلّ عمل فنيّ يريد له صاحبه الحياة الدائمة هو الكاتب نفسه. وتتحدّد جودة الكتابة من مرحلة النضج التي يبلغها الناقد الضمني, أو الذاتي.

النصّ الأدبيّ كونٌ مصغّر بدليل أن تركيب الجملة نحوياً وبلاغياً يتبع نظاماً يشبه إلى حدّ بعيد ترتيب العناصر الكيميائية في جدول مندليف الدوري, وكان هذا العالم يستعمل في عمله نظاماً يماثل ثمانيات السلم الموسيقي. لاحظ مندليف, ومعه آخرون, أن العناصر التي تتشابه في خواصها الفيزيائية وتتقارب في أوزانها الذرية تتواجد في الطبيعة بصورة تكرارية من ثمانية عناصر حسب وزنها الذري. الصلة بين الواقع والخلق, والتجربة والأدب جعلت عالماً يعيش في زمن آخر يتوصّل إلى نتيجة قريبة, هو الإمام عبد القاهر الجرجاني, قال في دلائل الإعجاز: ((حتى إذا وازنت بين كلام وكلام دريت كيف تصنع, فضممت إلى كل شكل شكله, وقابلته بما هو نظير له, وميّزت ما الصنعة منه في لفظه, مما هي منه من نظمه)). الموازنة في التركيب والمناظرة في الترتيب تساوق في المعنى وفي المبنى ثمانيات السلم الموسيقي.

بقي شيء أخير لا بدّ من ذكره. النقد الذي لا يحمل صفات كاتبه ومزاجه وطريقة تفكيره لا يستحق أن يتوقف عنده قارئ أيٌّ كان نوعه.

الأدب كونٌ مصغّرٌ, وقراءته حياة أخرى نعيشها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram