عدنان حسين أحمد
ليس بالضرورة أن يشتمل الفيلم الروائي على قصة محبوكة، فبعض المخرجين يميلون إلى تهشيم القصة وتشظيتها. كما لا يعتمد بعض صُنّاع الأفلام على شخصية رئيسة في محاولة جادة منهم لنسف مبدأ البطولة الفردية وتحويلها إلى بطولة جماعية تتوزع، بقدرٍ أو بآخر،
على مجمل شخصيات الفيلم الصانعة للأحداث أو المؤثرة فيها، بل أنّ هناك نمطًا ثالثًا من المخرجين يجرّدون الشخصيات من بطولتها الفردية والجماعية وينسبونها إلى الزمان أو المكان كما حدث في فيلم "ولولة الروح" للمخرج المغربي عبد الإله الجوهري الذي منح المكان القِدْح المعلّى
وركّز على أهمية الزمن وخاصة عام 1973م الذي تمّ فيه ملاحقة الشيوعيين والمعارضين المغاربة، وزجّهم في سجون سريّة من دون محاكمات،وتعذيبهم، وانتهاك حقوقهم الشخصية والعامة. ورغم أنّ "سنوات الجمر والرصاص" قد امتدت منذ ستينيات القرن الماضي حتى أوائل التسعينيات منه إلاّ أنّ تركيز السينارست عثمان أشقرا والمخرج عبدالإله الجوهري قد انصبّ على عام 1973م في محاولة لشدّ الأنظار إلى محورَين أساسيين وهما: حراك اليساريين في أوساط الطلبة والشباب، وفن العَيْطة الذي يعتمد على أشعار مشفّرة لا يفهمها إلاّ أصحاب الأرض الأصلاء الذين يقاومون المحتلّين الدخلاء. وأكثر من ذلك فإن كاتب النص والمخرج قد جعلا من المقاطع الغنائية لفن العيطة قصة إطارية تحتوي الحكايات الأربع للضابط ادريس، وللأستاذ عبد الفتاح، وللشيخ الروحاني، وللحارس عبد الوارث وما يتصل بهم من شذرات حكائية متشعّبة انتظمت في مجملها في هيكل معماري يتضمن مقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة. وعبر هذا الهيكل المحبوك يستطيع المتلّقي أن يستخلص الثيمة الرئيسة للفيلم الذي زاوجَ فيه المخرج بين التقنيتين الروائية والوثائقية وكأن التوثيق يحتوي الدراما الروائية والعكس صحيح.
الحافلة التي قَدِمت إلى مدينة خريبكة حملت في جوفها ضابط الشرطة ادريس لكن ماضيه السياسي لم يكن مُشجعًا للمنضوين في سلك الشرطة لأنه كان منتميًا إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب UNEM الذي حُظر في عام 1973م لأنّ أعضاءه كانوا يتوقون إلى الحرية والديمقراطية والعيش الكريم. كان ادريس طالباً في السنة الثالثة بقسم الفلسفة ولسبب ما قرّر الالتحاق بالشرطة التي دفعته إلى منطقة نائية هي خريبكة وصادف أن تقع جريمة قتل لامرأة شقراء يخالط سحنتها البياض فيُلقيها القاتل أو القتلة في بناية خربة ومهجورة ولم يستطع ادريس أن يحلّ لُغز الجريمة وسبب وجودها في الزمان والمكان المحددين فينغمس هو ومعاونه في تناول المشروبات الروحية والاستماع إلى أناشيد العيطة وحينما يعجز تماماً في الوصول إلى القاتل يقدّم استقالته إلى العميد فؤاد بلمختار ويعود في نفس الحافلة التي جلبته من الرباط إلى هذه المدينة الهامشية التي يتعرّض أبناؤها للسجن والتغيّيب القسري.
تتمحور الحكاية الثانية على الأستاذ عبد الفتاح، المناضل الشيوعي الذي يزرع أفكاره الثورية في أذهان تلاميذه ويناقش معهم فيلم "المدرعة بوتمكين" للمخرج السوفييتي سيرغي آيزنشتاين، وهو فيلم ثوري نطل من خلاله على عصر الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية. كما يقتبس عبد الفتاح مقولة لينين التي يؤكد فيها على "أنّ السينما هي الوسيلة الحقيقية للنضال وهي الأكثر أهمية من بين كل الفنون". وقد وعدهم في الحصة القادمة أن يتناول أحد أفلام المخرج البرازيلي غلاوبير روشا. كما قام في حصة ثالثة بتحليل قصيدة "إرادة الحياة" للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي التي تُعدّ واحدة من أهمّ القصائد التي تحثُّ على مواجهة الظلم والاستبداد ولعل الكثير من المثقفين العرب يتذكرون مطلعها الذي يقول:"إذا الشعب يومًا أراد الحياة / فلابدّ أن يستجيب القدر ". يرتبط عبد الفتاح بعلاقة حب مع "منّانة زروالي" التي تأتيه إلى خريبكة مرة كل شهر وهي فتاة شقراء جميلة ينصحها حبيبها عبد الفتاح بمغادرة المدينة بعد اعتقال الرفيقة سعيدة ومقتل الضحية المجهولة غير أن العناصر الأمنية تقبض عليه وتغيّبه في سجونها السرّية.
يحظى الشيخ الروحاني بمنزلة خاصة لارتباطه بفن العيطة من جهة، واهتمامه بالفلك والنجوم من جهة أخرى. كما أنه مرتبط بعلاقة عِشرة ومُساكنة مع الشيخة زهرة التي تخدمه وتعتني به. ونظراً لأهميتهما معاً يأتي إليها الأستاذ عبد الفتاح ويجري معها لقاءً مطولاً عن فن العيطة. وبالمقابل يتردد عليهما الضابط ادريس ومعاونة سلموني ويحتسون النبيذ، ويتجاذبون أطراف أحاديث متنوعة تتحدث عن أغانٍ كثيرة من بينها "أولاد العلوة، والشهيبة الفاسي،ومنانة خربوشة، ومازال الحق يبان". ومثلما استقال الأول، وغُيّب الثاني، يغادر الشيخ الروحاني وزهرة المدينة وكأن فن العيطة يشكّل خطراً على منْ يسمعه من الشباب اليافع ويتأثر به.
ربما تشكّل حكاية الحارس عبدالوارث الركن السردي الرابع في القصة السينمائية، فقد كان هذا الرجل من خيرة الرُماة وأشهرهم في الماضي لكن تقلبات الزمان تفضي به إلى مهنة الحراسة في نادٍ لقنص الحمام وهو يجلس يومياً عند البوابة إلى أن يأتي مسؤول أمني كبير يحاول قنص الحمام من دون أن يحسن فن الرماية لذا يلتجأ مضيّفوه إلى عبد الوارث الذي يُكلّف من قبل مديره أن يكمن في مكان مرتفع محجوب عن الأنظار ويطلق النار على كل حمامة يصوّب عليها المسؤول الأمني ويُوهمه بأنه صيّاد بارع ومتفوق في فن الرماية. وكان بإمكان عبد الوارث أن ينجح في هذه المهمة البسيطة لكنه يرفض المضي في هذه اللعبة، ويتمرّد على رئيسه، ويتصالح مع ماضيه البعيد نسبياً.
ثمة شخصيات أخرى كانت تنثر حضورها القوي مثل "خربوش" الثمل الذي يسكر يومين، وينام يومين آخرين ولا يكف عن ترديد أغنية "الشهيبة الفاسي، مدوخة راسي" لكننا نجده ميتاً، إذ نطح الحائط بقوة وفارق الحياة.
العميد فؤاد بلمختار يسخر من الضابط ادريس الذي درس الفلسفة، والشرطة من وجهة نظره تحتاج إلى إنسان يستعمل أنفه ودماغه جيداً لا أن يدرس الفلسفة ويخوض في تفاصيلها المعقدة. أما السيد منير فلا يهمه في دنياه سوى الدُعابة والمرح وتزجية الوقت في النوادي والمطاعم والجلسات الخاصة.
يصنّف هذا الفيلم بأنه بوليسي لأن هناك جريمة قتل ولم نتعرف على الجاني. كما أنّ هذا الفيلم تاريخي لجهة تناوله فن العيطة، وملاحقة الشيوعيين الذين كانوا يعارضون النظام آنذاك. ويمكن اعتبار "ولولة الروح" فيلمًا تجريبيًا لأنه نسف القصة، وقوّض البطولة الفردية، وترك للمُشاهد حرية التفاعل مع الأحداث، واستخلاص الثيمة التي يراها مناسبة. وإذا كاتب السيناريو عثمان أشقرا قد تعمّد كتابة هذا النمط السردي المغاير فإن المخرج المبدع عبد الإله الجوهري قد كان جريئاً بما فيه الكفاية لتأكيد رؤيته الإخراجية التي اشتطت بعيداً عن السائد والمألوف وجازفت بتحقيق هذا النمط التجريبي الذي لا يتورّع عن المغامرة والتجديد.