د. جليل العطية
(أتذكّر السيّاب .. إنّ الشعر يولد في العراق !
فكن عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي
محمود درويش )
- هو بدر شاكر عبد الجبار مرزوق السيّاب ولد في قرية جيكور – إحدى قرى أبي الخصيب في محافظة البصرة .
- أكثر شعراء القرن العشرين شهرة حيث شكّل مع نازك صادق الملائكة [ 1922 – 2007 م ] وعبد الوهاب أحمد البياتي [ 1926 – 1999 م ] نجمة ثلاثية تلألأت في سماء الشعر العربي المعاصر .
- ينتمي الجزء الأكبر من أعمال السياب من ناحية الشكل إلى الشعر الحر ، والسمة الأساسية لهذا التغيير الثوري في الشعر العربي هي التخلي عن البناء التقليدي العربي للقصيدة حيث تتسع القافية الواحدة في كامل القصيدة والبيت الشعري ذو البناء الموحد لصالح القافية الحرة ولصالح الأبيات المختلفة الطول .
- تأثر السياب – مثل عدد من معاصريه بـ : ت . س . اليوت وقصيدته الأرض الخراب ( 1922 ) ، ودعاه نقد إليوت للحضارة إلى العودة للأسطورة كمفتاح إلى الواقع والى الجزيرة العربية .
- نشر السيّاب عام 1955 ترجمة عربية لشعراء مختارين تضمنت شعراً لإليوت وباوند وستويل وسبندر وناظم حكمت ولوركا وتحت تأثير إليوت استخدم السياب رموز الأسطورة كتموز – الإله الذي يموت ويبعث ، حتى أطلق على السياب ورفاقه لقب التموزيين ويرى بعض النقاد أن قصيدة ( أنشودة المطر ) متأثرة بقصيدة الأرض الخراب .
- أوضح د . نذير العظمة السمات الأكثر أهمية في أسلوب السياب فأكد أنها :
1- على الرغم من أن قصائده تتسم بعمق متميز ، فإنه لم يحط تحقيق نظام القصيدة الضروري ووحدة الموضوع .
2- اعتمد المصادر الميثولوجية والدينية والتاريخية ، فأغنى معنى القصيدة العربية الحديثة ، بعبارة أخرى خلق السياب مضموناً حديثاً في القصيدة العربية الحديثة .
3- أسهم إسهاماً كبيراً في خلق الشكل الشعري العربي الحديث وسخره وسطاً مؤثراً للتعبير عن تجارب الحياة الحديثة .
4- وظّف الأسطورة في القصيدة العربية الحديثة .
5- استخدم الديالوغ ، وهذا ما أضفى على شعره شكلاً أكثر ديناميكية وحركة وجعله أكثر حيوية .
6- جعل من الصورة لمحة مهمة جداً في الأسلوب العربي الحديث .
7- استخدم المنلوغ بطريقة مؤثرة جداً ، فأضاف بذلك عطفاً آخر لشعره جاعلاً أياه خلفاً له أبعاده .
8- كسر رتابة أوزان الخليل واكتشف قاعدة للعروض العربي المعاصر .
- وذكر د. خليل إبراهيم العطية في كتابه ( التركيب اللغوي لشعر السياب ) أن ثمة مظاهر العامية في لغة السياب :
- الأولى أشار إليها وأعترف بها لوضعها بين أقواس الأقتباس كما فعل حين استخدم ( البلم ) في ( أساطير ) وحين حكى على لسان ابنته آلآء ( اما طابا ) أو تكراره لكلمة ( خطيه ) في قصيدته ( غريب على الخليج) .
- الثانية : تسلل إلى شعره دون شعور منه ، وهو كثير الورود في شعره .
- ودرس المستعرب الألماني ( ستيفان فيلد ) قصيدته ( هياي كونغاي كونغاي ) في مقال له عنوانه ( بابل هي شنغاي – ما هو صيني لدى بدر السياب [ ترجمة سالمة صالح ] قال فيها :
موضوع القصيدة إدانة القنبلة الذرية على هيروشيما في 6 آب 1945 م وهي مكتوبة بأسلوب الشعر الحر بينما صيغ بعضها بالأسلوب التقليدي .
وفيها مقتبسات من ( إديث ستويل ) من مسلسلها ثلاث قصائد للعصر الذري حيث حاولت الشاعرة فيها أن تصوغ قنوطها حول انهيار الإنسانية ، وعناوين هذه القصائد الثلاث هي ترنيمة جنائزية للشروق الجديد وظل قابيل ونشيد الوردة .
أثرت قصيدة ( ظل قابيل ) في السياب بشكل عميق وهو هنا يتخذ موقفاً سياسياً لصالح ستويل وضد ناظم حكمت ( 1902 – 1963 ) لكن الأهم هنا هو تراجعه عن قناعاته والتزامه السياسي – ويرى الشاعر والناقد سامي مهدي في كتابه ( وعي التجديد والريادة الشعرية في العراق ) أنه [ نتيجة لتزايد خبرة السياب وتفتح إحساسه بضرورة التجديد ، وتفجر روح المنافسة بينه وبين نازك الملائكة ، لم يبق شكل قصيدته على ما كان عليه في قصيدة ( هل كان حباً ) بل تطور تطوراً ملموساً ، وتجلى هذا التطور في عدة ظواهر أهمها :
- استخدام أربعة بحور جديدة .
- بناء القصيدة بناء مقطعياً متنامياً ، بحيث كان المقطع يكمل ما سبقه ويضيف إليه عنصراً . . . وتنويعات على بعضها استخدام التداعي والتكرار والحوار والقص والقطع والترقيم من أساليب البلاغة الجديدة .. ]
ذكريات :
آه .. آه .. آه !
أذكر جيداً مساء الرابع والعشرين من كانون الأول 1964 كنت أستمع إلى النشرة المسائية لإذاعة لندن العربية وإذا بالمذيع يعلن في ختامها وفاة السياب في أحد مشافي الكويت ، هكذا ببساطة .. صعقني النبأ رغم أنه كان متوقعاً بسبب مرضه ، ارتجفت واتكأت على الحائط الكئيب وكدت أصرخ : لماذا ؟ لماذا يرحل هذا المبدع الكبير وهو لم ينطح الأربعين شتاء ؟
رحت أُلملِم أحزاني وأنبش ذاكرتي المتعبة عن أبي غيلان منذ أن قرأت له قصائد ، وأنا طالب ثانوي ، في مجلة ( الفنون ) البغدادية وغيرها . . ثم جاء مدرس جديد للعربية يدعى ( محمود منير ) قال لنا إنه من البصرة . . ولقد أهتم بي عندما لاحظ أنني أفضل الطلاب في مادة الانشاء خاصة واللغة العربية عامة ، وذات يوم لمحته يتأبط أحد أعداد مجلة ( الآداب ) اللبنانية فجرؤت أن أطلب منه إعارتي العدد ولو ليوم واحد ! ضحك الرجل ولبّى فضولي .
كان العدد يشتمل على قصيدة للسياب ، ثم أخبرني أنه يعرف السياب شخصياً وراح يحدثني عنه بحماس . .
تمضي الأيام سريعة لأجد نفسي في قلب بغداد الامس الوسط الأدبي والثقافي وأسعى للعمل في الصحافة ، وذات يوم وبينما كنت سائراً مع صديقي الصحفي ( خضر الولي ) وإذا بنا نواجه السياب وجهاً لوجه .. كان الولي يصدر مجلة الرسالة وأصدر كتيباً عنوانه ( آراء في الشعر والقصة ) فيه رأي للسياب ، عرفني به فصافحني وسألني عن أهتماماتي ألأدبية فأخبره الولي أنني أكتب القصص فقال : لا بأس أخبرته انني من تلامذة صديقه ( محمود منير ) فسرّه ذلك .
كان السياب في تلك الفترة المرتبكة ينشر ذكريات سياسية حادة عنوانها ( كنت شيوعياً ) وذلك في جريدة ( الحرية ) التي تجسد التيار القومي . . تابعتها كجزء من عنايتي بشاعري المفضل . .
وعلى ذكر ( الحرية ) أقول إنني صادفت السياب وهو يحث الخطى في شارع الرشيد متجهاً إلى منطقة الحيدر خانة حيث مقر الجريدة في أحد أزقتها . فأشار إليّ ضاحكاً وقال : حماتك تحبك ! تعال أدعوك لتناول الأفطار معي ! فلم أتردد قبلت الدعوة وسرت واياه في مدخل الزقاق وصعدنا إلى مكتب الاستاذ فيصل حسون – نقيب الصحفيين الأسبق – ومدير تحرير الحرية – وكانت لي به معرفة بسيطة فرحب بنا ومدّ السياب يده إلى الاستاذ فيصل قائلاً : الضريبة مضاعفة اليوم لأنني دعوت جليلاً على صحن تشريب الباقلاء المغطى بالبيض المقلي بالدهن ! فرد الاستاذ فيصل قائلاً : ماذا أقول وها أنت لا تكتفي بثمن صحن واحد بل تدعو أحد المعجبين بك !! وكان افطار ذلك الصباح البغدادي من أشهى وألذ ما أكلت !
صادفته يوماً في مدخل شارع المتنبي ، فجرني معه قائلاً إنه تسلم لتوه مكافأة جيدة وهو يريد اقتناء كتاب مهم من مكتبة المثنى فاشترى ديوان ذي الرمة ( غيلان بن عقبة ) – طبعة ماكرتني مقابل ثلاثة دنانير .
تأبط الديوان الضخم فرحاً وسرنا إلى باب المعظم حيث امتطينا الباص الأحمر المتجه إلى الأعظمية .. صعدنا إلى الطابق العلوي ، فتح بدر الديوان وراح يقرأ بصوت عال قصيدة عينية لذي الرمة .. كان في الباص عدة صبايا اندهشن وتضاحكن وهن يستمعن إلى السياب يحدو . .
- ولا أريد الإطالة في حفنة الذكريات التي علقت في الذهن والقلب فأوجز وأقول إننا قلقنا عليه بسبب مرضه الذي ظل يشتد وهو يقاومه بالشعر ، وقرأنا ذات يوم أنه عاد إلى بغداد بعد رحلة علاج قضاها في بيروت ، زرناه نحن ثلة من الشباب أذكر منهم – أن صحّت الذاكرة – الأصدقاء فاضل العزاوي وسركون بولص [ 1944 – 2009 ] وماجد صالح السامرائي ، وكان قد حل في أحد الفنادق المتواضعة في ساحة حافظ القاضي [ 1900 – 1976 ] – الوثبة ببغداد فوجدناه مسروراً متفائلاً وحدثنا عن بيروت وعلاجه وقال إن الممرضة التي عنيت به أحبته وفتح حقيبته ليخرج خصلة من شعرها أكد أنها أهدته تذكاراً ومحبة من ( ليلى ) .
بعد هذا نظل ننشد مع السيّاب :
( ومنذ أن كنا صغاراً كانت السماء
تغيم في الشتاء
ويهطل المطر
وكل عام حين يعشب الثرى .. نجوع
ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع
مطر ...
مطر ...
مطر) ...