إياد الصالحي
تتباهى اتحادات كرة القدم بكبار رجالات التدريب عبر تاريخها، فهُم الآباء الحقيقيون لأجيال نمت مواهبهم تحت رعايتهم وسهرهم وتضحياتهم بالعُمر الجميل من أجل حصادٍ وفيرٍ لمستقبل تستقوي عنده قاعدة لعبتهم بعشرات من اللاعبين المَهرَة دون خوفٍ على مصيرهم في البطولات الكُبرى "المحكّ الفعلي" لكفاءة المُدرّب وتشكيلته المُمثلة للوطن والحالِمة بإسعاد الجماهير.
وإذا ما أستثنينا شيخ المدربين عمو بابا (1937-2009) بتجاربه المِئة والثمانية والخمسين مع المنتخبات الوطنية، وما قدّمه للكرة العراقية من كؤوس وميداليات وألقاب دعمت حضورها العربي والقاري بمهابة، وأسهمتْ في منح فرسانها الثقة الكبيرة ليركبوا صهوات المجد في مونديال المكسيك 1986، فإن المدرب أنور جسّام (73 عاماً) يُعدْ عميد المدرّبين العراقيين ممّن خرَجَ من معطفهِ الفنيّ عشرات النجوم الذين أعتنى بمواهبهم في أندية الزوراء والشباب والنفط والطلبة ومنتخبات الشباب والأولمبي والوطني بدءاً من عام 1980 الى عام 1996، وأعطى دروساً تربوية في علاقة المدرب واللاعب بعدما غزتْ الساحة الكروية مطلع العقد التسعيني ظواهر تمرّد بعض النجوم على الإدارات وخروجهم عن طاعة ميثاق الرياضة وخرقهم شرف المنافسة فيها.
في عديد اللقاءات الصحفية التي أجريتها مع المدرب أنور جسام قبل عام 2003 وما بعدها، ظلّ الرجل يحتفظ بذات السمات المُدعاة للفخر بشخصيته البغدادية العتيدة، وعزّة نفسهِ وثقتهِ بما أنجز، وإيمانه بأن العطاء في الحياة امتحان للنفوس تتميّزُ فيها الخيّرة من الشريرةِ، وأن أسوَأ ما يدفعهُ القدرُ بالبشر أن يعتلي القمّة في غفلة من الزمن، يستكبر على أهلهِ، متناسياً أنه كان معهم في السفحِ سنين طوالاً، علاوة على رفض جسّام المُخاتلة التي دعتهُ للانزواء في بيته على أن لا يعمل في نادٍ أو اتحاد أو أكاديمية تبخسُ قيمته، ولا تضعُ اعتباراً لمكانتهِ التي حَرِص كثيراً على تحصينها من مخاطر العمل في ظروف سياسية مُرعبة وصل التحكّم بالرياضة آنذاك أن خسارة مباراة واحدة للمنتخب أو النادي في معترك خارجي تعني مواجهة سيناريوهات الغضب ومزاج العِقاب المجهول!
أنور جسّام يواصل حجر نفسه، ليس مخافة فايروس كورونا اللعين الذي يستهدف كبار السِن وفاقدي المناعة بالدرجة الأساس، بل امتثالاً لقناعتهِ بأنهُ لم يعد له وجود وسط لُعبة تحوّلتْ الى غابة كبيرة منذ أن بلجَ صُبح أول يومٍ زعموا خلاص العراق من ديكتاتورية مهولة في 9 نيسان 2003، وإذا بالحرية المُنفلتة تُخرِّج عديد الشخصيات المُتعجرفة التي عبثتْ في قرارات رياضية أوّل من وجَّهَتْ سِهام اللؤم الى صانعي المُنجزات بتخطيط وتدبير من أبناء (جسّام) يوم كانوا تلاميذه في صفوف الأندية والمنتخبات، ودافع عنهم في أقسى المَهام، وتنعّموا بشلالات الأضواء تحت أنظاره، فكانت مكافأتهم له العُقوق من الدرجة الشديدة!
وحتى على مستوى الحكومة ممثلة بوزارة الشباب والرياضة لم تبادر أياً منها بتوالي تسلّمها الحقيبة ما بعد 2003 لتقليد سنوي تُكرِّم فيه نجوم الرياضة الكبار أمثال أنور جسام بـ(قلادة العِرفان) نظير خدماتهم الوطنية المتميّزة على مدى أكثر من نصف قرن للتباهي بهم بين العرب والعالم كجزء من تاريخ رياضي حيّ يعيش على ذكريات الأمس بإهمالٍ مقصود تحت ذريعة انقطاعهم عن التدريب أو عزوفهم عن تقديم المشورة، فيما الحافز الحقيقي وراء ديمومة العطاء هو التقدير والاهتمام والشعور بأهمية ضياء شموع الماضي لإنارة ظُلمات الحاضر في زوايا مختلفة نتيجة التخلف والأنانية والجحود وصناعة الوهم في الوسط الرياضي بتفخيم شخصيات هزيلة بالمال والتحزّب والترهيب كجزء من حملة تشويه تاريخ اللعبة والاساءة لها بإنزال ستائر النسيان على رموزها بوقاحة وصلافة، مثلما أوجز الناقد الاجتماعي البريطاني بيرتراند راسل الحكاية كلها بقوله: يوجد في الجزء الذي نعرفه من الكون الكثير من الظُلم، غالباً ما يُعاني الطيبون، وغالباً ما ينجحُ الأشرار!
جميع التعليقات 1
Anonymous
احسنت استاذ اياد لقد تكلمت عن ما يدور في داخل كل عراقي شريف محب لوطنه ولرموزه الوطنيين بارك الله فيك ودمتم بخير والله يحفظ الكابتن انور جسام