جلال فتاح رفعت
بعد أن قُيِّض لنا أن نطلع على عدد من أعمال الكتّاب الأتراك غير المعروفين عربياً من أمثال (متين كاتشان) (هاكان جونداي)
وآخرين غيرهم ممن نزلوا إلى قاع المجتمع وراحوا ينقلون الكلام كما هو لدى عامة الناس، وأخذوا يصوّرون لنا السقوط بكل أنواعه كإيذان عن بدء التغيير الظاهر على الواقعية السحرية بعدما بُليت ألوانها وبطل سحرها. فصرنا نتساءل هل وصلنا حقاً إلى درجة لم تعد لسحرية الواقع ضرورة للاستمرار، لأنها لم تعد تجذب جمهور القراء والمتابعين؟
فهل سنشهد في المدى القريب تبلور معالم تيار جديد إثر هذا التغيير؟ وهل ستفسح عملية التبلور هذه لظهور مفاهيم جديدة؟ ترى هل يمكن القول أن الواقعية السحرية فقدت قدرتها على الإغواء؟ وسوف تفقد ألقها في قادم الأيام ويؤول الأمر إلى إفساح المجال لظهور كيان مختلف تماماً، يتم بواسطته تجسيد الإثارة عن طريق تناول حياة أبطال هامشيين يقومون بتصرفات مخدشة للحياء، ويتم تداول الألفاظ البذيئة التي يتداولونها كما هي بدون رتوش، مثلما هي في الواقع تماماً، دون مداخلة من رقيب! وفي هذا السياق هل يمكننا تدشين مصطلح (واقعية بلا سحر) وإطلاقه على هذا التيار الجديد الذي بدأت طلائع أعماله تلوح في الأفق؟
قد يحلو للبعض أن يسمّي هذا التيار بالأدب الهابط، ويصف آخرون تلك الأعمال المكتوبة تحت هذا التأثير على أنها مجرد أعمال يتم فيها تسليط الضوء على ممارسة الأعمال الشائنة والسلوك الهابط لشخصيات تكثر من استخدام العبارات البذيئة التي تغيب فيها القيم الأخلاقية. في حين يشاء البعض أن يطلق على هذا النوع من الكتابة تسمية (أدب هامشي) أو أدب سري، أو(أدب سفلي) وحتى حضيضي!
هل يمكن القول إن السلوكيات الشائنة التي بدأت تطفو على السطح في بعض المجتمعات يمكن أن يرى فيها بعض الكتاب سمات جمالية يمكن الوقوف عندها؟
(رواية ثقيلة)
يبدو أن هنالك سبب ما خفي دفعنا إلى تأجيل الحديث عن الرواية الموسومة بـ (رواية ثقيلة) للكاتب الروائي (متين كاتشان) إلى وقت لاحق، لحين الإنتهاء من ترجمتي لرواية (القليل) للكاتب الروائي (هاكان جونداي) ربما كان هذا قد حدث بالفعل لأننا لم نحصل على حافزً قوي لتسطير هذا الكلام.
صدرت هذه الرواية في العام 1990، وبعد ست سنوات تلقفها المخرج السينمائي (مصطفى آلتى أوكلار) وحولها إلى شريط سينمائي. ظلت الرواية والفيلم على مدى سنوات مدار بحث ونقاش و تجاذبات في الأوساط الأدبية والفنية. كما صارت محاكمة الكاتب (متين كاتشان) ومقدم البرامج الشهير (آلب بوغدايجي) (1) الشغل الشاغل للناس. صارا هذان حديث الساعة لعدة أشهر بسبب تهمة الاغتصاب التي نسبت إليهما معاً وتمت تصفيتهما ببشاعة على خلفية الحدث.
ما جذبني في الرواية هو أولاً غرابة عنوانها، ثانياً تأسيسها لتيار (واقعية بلا سحر) في الأدب التركي الحديث.. ثالثاً وهذا مهم - بحسب ظني - هو حياة كاتبها ونهايته المأساوية. ألهمت الرواية المخرج التلفزيوني (متين بالك أوغلو) وكاتبة السيناريو (ييلدز تونج) فقدما مسلسلا تلفزيونيا بعنوان إضافي هو حياة جديدة. وقد عرض على قناة (ستار) في العام 2012 ولم يحقق مشاهدة واسعة فتوقف إنتاجه بعد أن اكتمل موسمه الأول.
تعتبر هذه الرواية نموذجاً لما يمكن تسميته بتيار (واقعية بلا سحر) في الأدب التركي الحديث.
تجري أحداث الرواية في حارة تمثل نموذجاً لحضيض المجتمع. يعيش فيها الغجر جنباً إلى جنب مع أناس هاجروا إلى المدينة من مختلف بقاع الأناضول. تُشرع شبابيك بيوتهم على زقاق يمارس فيه الفتوة (القبضايات) أنبل سلوكياتهم، وفي نفس الوقت يقترفون أخس أفعالهم وأكثرها دناءة. تطل الشبابيك نفسها على بيوت الدعارة التي تعج بها الحارة، وتشهد على الممارسات الخليعة التي تجري بين جدران تلك البيوت. باختصار إنها قصة حارة تسمى (كوليرا) تجتمع فيها نماذج مختلفة من البشر، فيها الشاذ الذي يمارس كل أنواع الرذيلة، والمدمن على المخدرات.
بطل الرواية (صالح غلي غلي) شاب عاطل عن العمل يتعاطى المخدرات (مدمن على استنشاق التنر) هو أحد أفراد عائلة مفككة. أبوه حلاق يحترمه الفتوة لسبب بسيط لأنهم يجلسون على كرسي الحلاقة في محله، ويضعون رقابهم تحت رحمة موسه في أثناء الحلاقة. أمه فقدت عقلها بسبب سوء معاملة زوجها الحلاق. أخوه الصغير مثلي وشاذ جنسياً. يمكن القول إن كل سكان (كوليرا) سلبيون، وكل ما يجري في الحارة هو مخدش للحياء، ويعتبر خروجاً على قواعد الأخلاق المتعارف عليها في أي مجتمع.
عنوان الرواية كان مثاراً لتساؤلات عديدة حول معنى الكلمتين المستخدمتين فيها. كلمة (Ağır) (ثقيل) و (roman )(رواية) فالكاتب بلا شك لا يقصد المعنى الحرفي والسطحي للكلمتين! إذن فما المقصود من (Ağır roman)؟
من أجل فهم العنوان والقيام بترجمته على نحو سليم يتوجب الوقوف على كل كلمة على حدة. للوهلة الأولى يبدو للقارئ أن الكاتب عني بكلمة (رومان) التي تعني رواية بشكل عام، بينما يعرف المهتمون أن الكلمة تطلق أيضاً على الغجر في تركيا على وجه الخصوص، كما تطلق على نوع خاص من الرقص المتعارف عليه بينهم (أي بين الغجر). أما كلمة (Ağır) أي (ثقيل) فهي تستخدم كمصطلح موسيقي متعارف عليه بين العازفين المتجولين من (الغجر) يطلقونه على نمط آخر من نفس الرقص. ولكنه بطيء أو ثقيل. العزف المسمى (رومان) يكون في الغالب سريعا لإثارة رغبة الرقص لدى المستمعين. أما عندما يراد الإبطاء من سرعة العزف يهتف أحد العازفين بالقول (ثقيل) فتتباطأ وتيرة العزف ويتم الانتقال إلى نمط أقل سرعة، تتهاود فيه سرعة اللحن وتتباطأ حركة الراقصين.
لقد أحالني هذا العنوان إلى تقصي كلمة ثقيل التي تستخدم إلى يومنا هذا بين سائقي سيارات الأجرة وبين مساعديهم. فهي تعني ابطء من سرعتك. مساعد السائق أي (السكن) يصيح (ثكيل) فيبطئ السائق من سرعة سيارته ليتسنى لمن يريد ركوب السيارة أن يلحق بها. كلمة (ثكيل) تعني (بطيء) وهي إشارة من مساعد السائق لتنبيه السائق على ضرورة إبطاء السرعة. لذلك أرى أن الترجمة السليمة للرواية هي (عزف غجري بطيء) وليس (رواية ثقيلة).
القليل
رواية (القليل) للكاتب الروائي (هاكان جونداي) يمكن أن تدرَج أيضاً تحت يافطة (واقعية بلا سحر).
إن كانت الصفة الغالبة للمواضيع المتهتكة والإباحية لدى تشارلز بوكوفسكي تمارس من قبل الذكور، نراها لدى (جونداي) سلوكاً أشبه بردة فعل احتجاجية يمارسها كلا الجنسين على حد سواء من أجل الوصول إلى حالة معينة من حالات الحب أو الانتقام. فالطفلة (درداء) ذات الاثنتي عشرة سنة تمارس الجنس بشكل مهوس فهي تمارسه نكاية بزوجها الغول الذي حبسها في شقة بلندن وظل يمارس الجنس معها بعنف وسادية، وفي نفس الوقت ارتضت لنفسها أن تؤسس علاقة محرمة مع جار لها هو (ستيفن) المريض النفسي السادي المازوشي المدمن على المخدرات الذي يقودها إلى عالمه وتغدو بطلة أفلام اباحية. وبعد رحلة مضنية من العلاج في مشفى خاص بحالات الادمان تتوفر لها فرصة لحياة كريمة، ويتسنى لها دخول إحدى الجامعات الانكليزية، والتفوق على زملائها. ثم تتاح لها فرصة القيام برحلة دراسية، فتأتي إلى اسطنبول لإجراء بحث علمي، تلتقي خلال إحدى زياراتها الى المقبرة الفتى (دردا) وتتوطد بينهما علاقة حب متبادل.
أظن أن تسمية البطل والبطلة باسم (درداء) و (دردا) هي دلالة على تشابه مصيريهما ومحاولة من قبل الكاتب لمحو هوية البطلين، ومن ثمة تأثيثهما من جديد. الفتى (دردا) مقيد ضمن حدود مقبرة في اسطنبول، و(درداء) مقيدة بين جدران شقة في لندن.
(درداء) فتاة قروية بائسة يتم تزويجها من أجل المال، فتنتزع من قريتها الواقعة في أقاصي الأناضول. يصور الكاتب القرية وكأنها كتلة من الروث طافية على سطح مستنقع متجمد. يتم اقتياد (درداء) إلى بلد لا تعرف عنه أي شيء، مثلما لا تعرف أي شيء عن زوجها الغول (2) الذي يقوم بحبسها في شقة بلندن، ويظل يمارس معها الجنس بسادية. أما الفتى (دردا) فهو فتى صائع سماه أبوه (دردا) تيمناً بصديق له من أصول عربية، برغم عدم معرفته بمعنى الكلمة. فهو واحد من أولاد الشوارع يعيش في كوخ متاخم لمقبرة تقع شمال اسطنبول هي مقبرة (أديرنة قابي). يعتاش على تقديم الخدمات لذوي الموتى الذين يزورون قبور موتاهم. يحفظ (دردا) أسماء كل الموتى المدفونين في هذه المقبرة مع تواريخ ولادتهم وأيام وفاتهم. هناك يرى قبر الكاتب (اوغوز آتاي) ويحفظ تاريخ ولادته و وفاته. ثم نجد أنه ينزلق إلى عالم الجريمة. فتى بلا هوية ولا عائلة يعيش في كنفها.. يلجأ الى تقطيع جثة أمه ويوزع أشلاء جسدها بين القبور. أبوه مجرم حكم عليه بالسجن لقتله أعز أصدقائه. وبسبب ذلك يقضي سنواته في السجن. يكتشف الفتى ارتباط إحدى التنظيمات الدينية بمكتب الاستخبارات الخارجية في سفارة دولة من الدول الأوروبية، ثم يكتشف عصابة إجرامية يضطر الى قتل واحد من أعتى القتلة المأجورين فيها.. هنا لا أريد الحديث أكثر عن الرواية لئلا أفسد على القارئ متعة قراءتها.. فالرواية ممتعة إلى درجة كبيرة وتنتمي إلى تيار (واقعية بلا سحر).
حكايات من مكب النفايات
(بيرجي كريستين: حكايات من مكب النفايات) رواية للكاتبة التركية (لطيفة تكين) تتطرق فيها إلى حياة أناس يعيشون في حي من التنك نشأ على حين غرة في إحدى الضواحي في منطقة تكثر فيها التلال، تقع على مشارف مدينة كبيرة لا تسميها الكاتبة جهاراً ولكننا نتكهن أنها اسطنبول.
في إحدى ليالي الشتاء ينتظر عدد من البشر قدوم شاحنة نقل النفايات لتشق طريقها في الوحل ولترسم حدود المكان. بعد مرور الشاحنة يخرج الجميع من بين التلال ويبدأوا ببناء أكواخ لهم على ضوء مصابيحهم اليدوية. رجال ونساء يديرون ظهورهم صوب البراري التي نزحوا منها، مولين وجوههم شطر مدينة لا ينتمون إليها، ولا تمت بأية صلة مع واقعهم الجديد. في هذا الحي الذي بدأ يتشكل تواً بأكواخ أنشئت على مساحة شاسعة من أرض قررت السلطات اتخاذها كمكب للنفايات. يبدأ أطفالهم بالتقاط الدمى المتضررة والألعاب التالفة التي ترمى في المزابل، بينما ينشغل الكبار بإعادة نسج حكاياتهم وقصصهم واجترار الأغاني التي كانوا يرددونها في حياتهم الريفية.
تتبلور معالم المكان ويتشكل تاريخه من خلال ذكريات شخوص الرواية. حيث يتذكر البعض منهم كيف جاءت أول شاحنة باتجاه تلك التلال البكر لتفريغ حمولتها، وكيف خاضت الأوحال لترسم عجلاتها طريقاً أتخذ من بعد ذلك مساراً معتمداً لدى سائقي الشاحنات، ثم انتشرت الأكواخ على جانبيه بشكل عشوائي. يبدو أن الناس هنا ينظرون بريبة إلى شاحنات نقل النفايات. فلا أحد يظهر للعيان ما لم تأتي الشاحنة وتفرغ نفاياتها وتعود أدراجها. وما أن تبتعد حتى يظهرون من هنا ومن هناك حاملين مجارفهم ومعاولهم لكي يرسموا مسار الطريق الذي خطته الشاحنة. وهكذا يتم استقطاع مساحات معينة على جانبي الطريق، ويتم توزيع قطع الأراضي تلك كقطع سكنية يحتشد فيها سكانها. ثم يأتي آخرون، يبدو أنهم كانوا ينتظرون خلف التلال على عربات مسطحة تجرها الدواب، محملة بمواد بناء مختلفة للمباشرة بالبناء على الفور. وما أن يحل المساء ويخيم الظلام حتى يشعل كل واحد منهم مصباحه اليدوي (التورج) ويبدأ الجميع بالعمل طوال الليل حتى يكتمل البنيان مع انبلاج الفجر. ثم يقومون بتغطية سقوف أكواخهم بألواح بلاستيكية وإكمال الفتحات بما يتوفر في المكب من قطع الطشوت البلاستيكية وعجلات الدرجات الهوائية. يسقفون بيوتهم بما يتيسر لهم من المواد التالفة التي يزخر بها المكب. ثم تدخل كل عائلة كوخها لتسكن فيه. يفرشون أكياسَ الخيش على الأرض، يعملون إيقونات من خوص المكانس. يطعّمونها بخرز زرقاء لاتخاذها كتعويذات تحميهم من عيون الحساد! ثم يدلون حبالهم من السقف لعمل مراجيح لأطفالهم. فتأتي أولى زخات المطر كوابل من الثلوج. نرى قسوة الطبيعة معهم لدى اختبار مدى متانة أكواخهم ومدى صمود سقوفها أمام الرياح والأمطار. تخر السقوف على رؤوس ساكنيها، ثم تأتي ريح هوجاء لتقتلع تلك السقوف واحداً إثر آخر وتطير معها الحبال ومراجيح الأطفال ثم تذهب بالأطفال، طفلا تلو الآخر.
ذكّرني هذا بمشهد ساحر في رواية (مائة عام من العزلة) للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، حيث تطير إحدى الفتيات من شخصيات الرواية مع مهب الريح في أثناء نشرها للغسيل، في حين نجد أقصى درجة من درجات الإثارة لبطل الرواية (دردا) حين يسرق فأساً من محل لبيع العدد اليدوية ويهرع الى البيت لكي يقطع جثمان أمه. هنا لا ننوي القيام بمقارنة بين هذه الرواية وبين تلك. فالمراد من ذلك حسب ظني أن الكاتب يريد القول أن العائلة لا هوية واضحة لها وخاصة عندما نفهم أن عملية تقطيع الجثة ودفنها داخل الأرماس الأخرى هي بمثابة تأكيد على أن هذه الكائنات لا هوية واضحة لديها. وهكذا يتوارى جثمان الأم، فلا يكون لها قبر معين. لا رمس ولا شاهد قبر. لا تاريخ للولادة ولا تاريخ وفاة. ثم نجد أن الأب يخرج من السجن بعد إكمال مدة محكوميته، ويعود إلى كوخه الكائن في المقبرة، من دون أن يسأل عن زوجته. يجد فتاة صغيرة في طريقه فيأتي بها الى البيت ليضاجعها هناك. نفهم أن (دردا) كان على علاقة عاطفية معها. يدخل (دردا) في أثناء ذلك البيت ويجد المشهد أمامه بكل تفاصيله وتهتكه المشين فينهي علاقته بالصبية بعد ذلك الحادث.
يمكن القول أن كتاب هذا التيار يختارون الأوساط الموبوءة التي ليس فيها أي أثر للعفة، التي تحكمها مافيات تتاجر بالمخدرات أو عصابات منبثقة من تنظيمات دينية وسياسية.
من خلال متابعتنا للكتب الأكثر مبيعاً في تركيا وجدنا أن كتاب هذا التيار هم الأكثر انتشاراً.
(1) انتحر الكاتب (متين كاتشان) بعد خروجه من السجن، بإلقاء نفسه من أعلى الجسر المعلق في اسطنبول إلى البحر. وجدت جثته بعد ثلاثة عشر يوماً. عندما كان نزيلا في السجن بتهمة الاغتصاب قام أحد النزلاء بطعنه وقص أذنه وجدع أنفه. أما (ألب بوغدايجي) فقد تعرض لمحاولة اغتيال في السجن ولكنه مات متأثراً بجراحه قبل أن يصل إلى المستشفى.
(2) أبوه رجل أعمال ينتمي إلى جماعة دينية تمارس الدروشة.