حيدر المحسن
يفتح الشّعر أعيننا على المستقبل، ويجعلنا نطيل النظر إلى الماضي أيضاً، بل إن رغبة الشاعر الكبرى هي أن يجعلنا نتذكّر ما كان، ونسيان ما سيكون. لا فرق بين الأحياء والأموات بالنسبة إلى الشاعر، فهو ينتسب إلى الأسلاف الذين يتعلّم منهم الصّنعة، ويسمع في أثناء العمل أصواتا حوله هي أصداء شعر أُنشِدَ في حقب زمنية سابقة، وكلما كان الماضي أبعد فهذا أفضل.
إن كل كلمة تكتب أو تقرأ تسرق مقداراً من كثافة الإحساس بالوجود. جاهدت الشاعرة دنيا ميخائيل أن تصنع قصيدة طويلة في كتابها الشعريّ الأخير "الغريبة بتائها المربوطة" وأعطت القصيدة عنواناً يعود إلى أول الدنيا: "ألواح":
في الصباح الأول
من السنة الجديدة
سننظر كلنا
إلى شمس واحدة
ونشرت مع القصائد رسومات "في محاولة مني لاستدعاء الروح السّومرية ومحاولات الإنسان القديم للتّعبير بغياب الكلمات" كما تقول الشّاعرة. الأمس الذي يبقى في التاريخ يشبه يوماً جديداً، وكأن الخليقة قد ولدت للتوّ. إنه فريد، واستثنائيّ، ولا مثيل له بعد، والدنوّ منه يتطلّب عُدّةً من قصائد محمولة بما فيه الكفاية دائماً كأطفال الفيلة طوال عشرين عاماً. ومن يريد أن يقصر من مدة الحمل، يجعلها طيوراً تنمو عضلاتها بسرعة تحت تأثير الهرمونات، وتقدّم رخيصة في المطاعم. تصوّر دنيا ميخائيل نفسها في الشعر، وتصوّر الناس، وقلبها موقوف للعماء في الوقت نفسه. إنها تحمل معها هموم وطنها العراق أينما حلّت:
لستُ أمك يا وطن
فلماذا تبكي هكذا
في حضني كلما أصابك أذى؟
مستحيلٌ أن يركب في القطار مع الشّاعر غير الخبيرين بالنفس عندما تصفو، الضالعين بآلام الروح عندما يتخثّر الجسد بالأوجاع التي لا تُردّ:
بعيدون عن البلد
ذلك هو كلّ ما تغيّر فينا
كلمات عذبة في جمل قصيرة تشبه التلغرافات تشفّ من ورائها روح تتعلّق بوطنها الذي يراه القارئ تحوّل إلى ملبسة تذوب في فمه تدريجياً ولا تنتهي حتى يكتمل الكتاب: "مثلما تفعل السلحفاة | أسير في كل مكان | وبيتي فوق ظهري" و"أوراقُ شجرٍ | متيبّسة هناك | لوعاتنا الأولى" و "ذراتُ رملٍ | متناثرةٍ | من بين الأصابع | أهلُنا". وهكذا نظلّ نسمع الشعر إلى النهاية بصيغة صور تحرّكها موسيقى الإيقاع فتزيد من تأثيرها كأنّها رُسمت بمصاحبة طبلٍ كبير تعلن دمدماته الفجيعة التي ختمت برسمها على لحاء قلب الشاعرة، وتركت فيه وسط أعياد الريح أثرا:
كم يدوّرنا الشّوقُ معاً
أين بداية الدائرة؟
أين نهايتها؟
قدّمت الشّاعرة ألواحاً جاءت أكثرها بصيغة مراثٍ تغلب فيها العاطفة على تمارين الألم التي يستوحي منها الشّعر تجاربه، ويلتقي القارئ بالفيلة في الكتاب ويطالع مشهد العصافير المشويّة في الوقت نفسه: "أنا لا أملُّ منك أبداً | القمرُ أيضاً، يأتي كل يوم" و"الأشجار تتبادل الكلام | مثل أصدقاء قدامى | ولا تحبّ أن يقاطعها أحد | لذلك كلّ من يقطع شجرة | تلاحقهٌ لعنتُها فيصبح | كأنه مقطوع من شجرة"، والأمثلة غير هذه كثيرة.
تتكلم دنيا ميخائيل الإنكليزية وتترجم عنها ولا ندري إذا كتبت شعراً بها، ويبدو أنها أخذت تميل إلى هذه اللغة أكثر من لغتها الأم التي خصّت بها أحد الألواح بالنقد الجارح، والذي تبلغ به السخرية درجة التهكم: "اللغة العربية | تحبّ الجمل الطويلة | والحروب الطويلة | والأغاني الطويلة | والسهر | والبكاء على الأطلال". كأن دواوين الشعر تحتفظ بما يُكتب عليها من جَمال وتُطفئ بريق الصور مضطربة الألوان. يتنوّع الحبّ في شعر دنيا، ويتبادل الوطن الدور مع الحبيب، حتى يصعب أحياناً التفرقة بينهما: لحظة تصوّرتَ بأنك ستفقدني
بدأتَ تراني بوضوح
بكل زهوري
حتى اليابسة منها
إن حاجتنا إلى الحبّ تتجدّد في كلّ ثانية، والعلاقة بين القلم والحرف يجلوها الحبّ أكثر، وهو بين المرأة والرجل مثله بين المواطن والوطن، التّضحية في الحالتين لها صفاء الزّجاج، وعذوبة الماء:
عندنا دقيقةٌ واحدة
وأنا أحبك