علاء المفرجي
أعاد لي النشاط السينمائي الذي صاحب معرض العراق الدولي للكتاب، والذي تضمّن في بعض منه الحديث عن الروايات التي أُفلمت للسينما على تاريخ الفن السابع..وكان من حسن الحظ أن أكون من يتحدث عن رائعة غونتر غراس (الطبل الصفيح) وهي التي تعد واحدة من أهم أعمال الراحل غونترغراس ، لكني أجدها واحدة من أهم الأعمال التي عالجتها السينما.
فلم تُصب السينما في كل مرة يجري فيها نقل رواية الى السينما، إلا مع روايات بعينها خلدتها السينما، مثلما خلدها الأدب كرواية، مثل رواية الحرب والسلام، وذهب مع الريح، وعناقيد الغضب.. وغيرها. وعند هذا المستوى تقف رواية الطبل الصفيح لغونتر غراس وهي التي نالت جائزة نوبل الأدبية . فقد ترجمت الى اغلب لغات العام وعدها النقاد من عيون الأدب العالمي.
هذه الرواية تهيأ لها واحد من أهم مخرجي المانيا ، ففي نهاية السبعينيات يتصدى المخرج الألماني فولكر شلندروف لنقلها الى الشاشة في مغامرة اثمرت تحفة سينمائية رائعة تعد من روائع الإنتاج السينمائي منذ بدايته ، وعد "أوسكار" بطل الرواية أحد أهم الشخصيات في الأدب العالمي . ومثلما نقلت الرواية صاحبها الى قمة المجد الأدبي فانها وضعت مخرجها بين مصاف مخرجي السينما في العالم ، ويكفي أن هذا الفيلم تقاسم عام 1979 سعفة كان الذهبية مع تحفة سينمائية اخرى صنعها فرنسيس كوبلا ، ويا للمصادفة كانت معالجة متقدمة لرائعة جوزيف كونراد "قلب الظلام"..
لم يحاول شلندروف في فيلمه فرض رؤيته الخاصة على النص الأدبي بل تعامل معها بحذر شديد للحفاظ على المضمون الخيالي للرواية في إطار واقعي دقيق فاقتصر دوره على الربط بين الأحداث على اختلافها وتنوعها الشديد وهي مهمة لم تكن سهلة على أية حال ، خاصة أن المؤلف لم يلتزم بأسلوب روائي واحد وإنما استعان بشتى الأساليب التي لاحد فيها يفصل بين الواقع والخيال. الشخصية الرئيسة في الرواية هي القزم "أوسكار ماتسرات" نزيل مصح عقلي يكتب مذكراته ابتداء بقصة آبائه وميلاده ونشأته وحياته في ظل النازية والحرب، ثم قصته مع مجتمع ما بعد الحرب. ومن خلال هذه المذكرات نتعرف على قرار أوسكار بوقف نموه في عيد ميلاده الثالث احتجاجاً على ما يحدث حوله ثم قراره بالنمو مرة أخرى بعد انتهاء الحرب.
تجلت الصعوبة في تحويل النص الأدبي في طريقة السرد فـ " أوسكار" يروي ذكرياته بطريقة الانتقال من الحاضر الى الماضي وهو ما يلزم الكاميرا بالعودة الى الوراء على طريقة الـ"فلاش باك" ، وللافلات من هذه الفكرة يلجأ شلندروف الى طريق التتابع الزمني الذي اضطره الى تخطي المرحلة الأخيرة في المذكرات التي تعالج أحداث ما بعد الحرب، وهي أيضاً مرحلة كتابة المذكرات والاكتفاء بالتسلسل الزمني لحياة أوسكار حتى انتهاء الحرب بخلفية الأحداث التي ترافقها..
في النص الروائي يكتب غونتر غراس سيرة تاريخية من خلال سيرة بطله ، بمعنى إنه يرصد الأحداث التاريخية من خلال منظور حياة متفردة، منظور شخصية مصطنعة هي شخصية القزم "أوسكار" والذي هو بدوره مرآة مشوهة لهذا الواقع بسبب رفضه له وتمرده عليه.. فكان من المهم أن يستعين الفيلم بوسائله الخاصة لتكريس هذه الحقيقة فمنذ اللقطة التي يرفع بها الطبيب المولود الجديد أوسكار من قدميه وتثبيت الكاميرا عند مستوى رأسه يجعلنا المخرج نلتزم في أغلب المشاهد واللقطات بمنظوره للأحداث التي ستقع بعد ولادته.