جودت هوشيار
كانت آنّا أخماتوفا ، في الثالثة والعشرين من عمرها . إمرأة جذّابة ، وشاعرة رقيقة ، ذات موهبة عظيمة ، مفعمة بالأنوثة ، والبراءة ، والرومانسية، و نشرت قصائد تنم عن ولادة شاعرة واعدة .
وذاع صيتها ، حتى قبل أن تجمع قصائدها المنشورة في المجلات الأدبية المرموقة بين دفتي ديوان صدر في آذار عام 2012 تحت عنوان ” المساء “.
وكانت اخماتوفا وزوجها الشاعر نيكولاي غوميليف (1886-1921) يشكلان ثنائياً مبهراً . وكان الأخير ضابطاً في الحرس الإمبراطوري ، وشاعراً ذاع صيته وهو في مقتبل الشباب، وكثير الأسفار ، يجوب البلدان التي تختلف ثقافتها كثيراً عن الثقافة الروسية ، فقد قضى فترة من الزمن في مجاهل افريقيا ، ونشر عنها بعض الكتب.
أما أخماتوفا فقد كانت تسهر في هذا المقهى حتى الفجر بجوار الموقد شتاءً، شاحبة الوجه ، ترشف القهوة السوداء ، وتدخن سجائر نسائية رقيقة ، وترتدي تنورة حريرية سوداء ضيقة لتبدو– كما تقول في قصيدة لها مكرسة للقبو – أكثر رشاقةً، وتشد خصرها بحزام جلدي عريض ، وتجلس مع سيدات ذوات عيون وسيعة ، يرتدين قبعات عريضة الحوافي ، يحيط بهن جمهور من المعجبين بشعر أخماتوفا . كانت الشاعرة الشابة مرحة دائماً ، تتعالى ضحكاتها في أرجاء القاعة ، فيقترب منها شاعر متمرس، ويطلب منها هامساً ، أن تخفض صوتها ، كما يليق بشاعرة معروفة . وعندما يطلبون منها القاء أبيات من شعرها ، يرتسم على وجهها تعبير جاد ، وتتوجه الى خشبة المسرح ، وتلقي ببراعة ممثلة مقتدرة ، شعراً حداثياً بإيقاعه الجميل وصوره المجازية المبتكرة .
كان هذا في زمن الازدهار الثقافي ، قبل النكبات التي حلت بروسيا في السنوات اللاحقة . ورغم أن الوضع السياسي كان مشحوناً بنذير أحداث عاصفة ، الا أن ذلك لم يمنع من مواصلة الحياة الإبداعية الصاخبة في هذا المقهى الفريد من نوعه في روسيا والعالم . فقد كانت الأحلام الجميلة ما زالت ممكنة التحقيق ، وأصبحت اخماتوفا معبودة الشعراء من مدرسة الذروة ” الأكميزم ” – الذين شكلوا تجمعاً اطلقوا عليه اسم ” ورشة الشعراء ” بمبادرة من الشاعر غوميليف – وتثير قصائدها رغبات حسية دفينة وموجعة لدى الجيل الجديد . ولم يدر بخلدها في ذلك الحين ، أن المستقبل محمّل بالمصائب .
وفي هذا المقهى توثقت علاقة أخماتوفا بواحد من أعظم الشعراء الروس في القرن العشرين وهو أوسيب ماندلشتام (1891 - 1938 ) . ذات مرة عندما انهت اخماتوفا إلقاء قصيدتها صعد ماندلشتام الى خشبة المسرح ، وارتجل إحدى روائعه التي يصف فيها الشاعرة الموهوبة آنّأ و شالها الكلاسيكي ( المزيف على حد تعبيره) . وبعد أيام كانا يتجولان في شوارع بطرسبورغ ، عندما دخلت آنّا الى كابينة التلفون ، وبعد أن انهت مكالمتها ، ارتجل ماندلشتام قصيدة في وصف جمالها ، وكيف تبدو وراء زجاج الكابينة وهي تتحدث في التلفون