رنيم العامري
صدر ت مؤخراً بترجمة (علاء الدين أبو زينة) للعربيّة كتاب « تراتيل ثعابين البحر» للكاتب السويديّ (باتريك سفينسون) وهو الكتاب الذي حاز عام 2019 على جائزة (أوغست) السنويّة التي تُمنح لأفضل كتاب سويدي.
كان هذا الكتاب أولى قراءاتي لهذا العام (2021)، وأعتقد أن اختياري كان موفّقاً. ولقد تنقّلتُ في صفحاته بين سردَين متوازيين هما؛ السيرة الذاتية للكاتب، والتاريخ العلمي لثعبان البحر. ولكن حتى أثناء هذا التنقّل لم أجدني أنفصل عن أي من السردَين أو حتى أفصِل بينهما، كانا بشكل ما يتلاقيان عند المفاصل الحميمية. نعم، في حياة ثعبان البحر مفاصل حميمية كثيرة. لقد تفاجأتُ أشدّ المفاجأة بهذا الكائن العجيب، ولم أحسب أنني سأنتبه أو سأهتم يوماً بهذا المخلوق الذي كنتُ أجهله من قبلُ كلياً، وأعترف الآن أنه قد أسرني. ولا أعرف إن كان الفضل لميزات تخصّه، أم لجمال السرد الأدبي أو العلمي، أم لحلاوة لغة الترجمة.
أما عن ثعبان البحر؛ فلا أعرف كيف سأتحدث عن هذا الكائن الذي استطاع الإفلات من المنطق العلمي لأرسطو، الفيلسوف الذي قال إنه «يولد من العدم، من الطين». لقد اقتُرحَت نظريات أو قصصٌ كثيرة لتفسير أصله، ليس أقلها غرابة التفسير الذي يقول «إنه يولد من ذيول الخيل»! وقد يقول أحدهم ممّن له اهتمام بالبحث العلمي: إذن لماذا لا يتتبّع العلماء دورة حياة هذا الكائن البسيط من البداية إلى النهاية، كما فعلوا مع غيره من الأحياء؟ فأُجيبه: إنّك لو قرأت الكتاب لعرفت أن جهوداً محمومة قد شُنّت لمطادرته عبر البحار، ولكن عبثاً، فلم يستطِع ولا عالِم أن «يؤكّد» أي شيء بخصوص منشأ هذا المخلوق، على وجه الدقة، مهما أمضى من سنوات في البحث. حتّى أن بعضهم لم يبخل بأعوام مديدة من عمره في دراسة هذا الحيوان، لم يكن آخرهم، ولا حتى أشهرهم، (سيغموند فرويد). ولربما سيتفاجأ القارئ -وهنا تكمن المفارقة- بأن عالم النفس الأبرز الذي «سيعرّف القرن العشرين عن الجنسانية، قد أخفى عليه ثعبانُ البحر نفسَه، جنسياً». قد يبدو الأمر للوهلة الأولى مضحكاً أو لا يمكن تصديقه أو ببساطة خاطئاً، ولكن هذه هي الحقيقة.
ستمرّ قرون قبل أن يُعثر على ذكر ناضج أو أنثى ناضجة -لم تخلُ عملية البحث من قصص تبعث على الضحك- وربما ستمرّ قرون أخرى قبل أن يُزال الستار عن اللغز المستعصي عن الحل الذي يسميه علماء الحيوان بـ «سؤال ثعبان البحر». هنا أيضاً ستتعرف على دور ثعبان البحر المخفيّ قسراً من التاريخ الأمريكي، ولماذا -وستتفاجأ مرّة أخرى- يجب أن يوضع مكان الديك الرومي في موائد عيد الشكر.
أما عن السرد الأدبي، فيا لرقّة وعذوبة المشاهد التي عكف المؤلف على وصف كل دقيقة ونأمة ولمحة منها دون أن يضنّ علينا بشيء. وكلها مشاهد يرقّ لها القلب؛ من الكوخ، والجدول القريب، والعشب، وشجرة الصفصاف، والشمس الغاربة، وحتى المشهد الأخير؛ لحظة موت والده. وأعتقد أن الفضل في نقل هذا الجمال يعود للمترجم الذي لم يكن ضنيناً هو الآخر، فأضفى على النصّ حيوية لن تكون لتوجد دون مفرداته.
إنك ستلاحظ القاموس المتفرّد المتنوّع الغزير للمترجم وهو يتخيّر من الكلمات أسلسها وأدقّها وأكثرها قدرة على سلب لبّ القارئ. غير أن ما أثار انتباهي أن النصّ كان بحاجة إلى مراجعة محرّر نبيه، أو مدقّق ماهر، لأنّ واحداً من أكثر الأمور الباعثة على الضيق -بالأخص للقارئ النبّاش سريع الانفعال- هي الأغلاط الإملائية وأغلاط تنضيد النصوص وأغلاط صياغة بعض العبارات، لا سيّما في الكتب التي لا يُنتقص فيها إلا وجود هذه الأغلاط، إنها والله أشبه بمن يغصّ بالماء القراح. لن يغفر القراء الذين يشبهونني كثرة الأغلاط الاملائية وأقواس الاقتباس المبعثرة، ولن يغفر قارئ العربية الإشارة والحديث عن غير العاقل بصفة العاقل، بل والأنكى جمع غير العاقل جمعاً عاقلاً مذكّراً ثم جمعاً عاقلاً مؤنثاً وفي نفس الأسطر! لماذا أقرأ مثلاً «ينتهي بهم وقد تبعَت مساراً محدّداً» ونحن نتحدث عن ثعابين البحر غير العاقلة؟ أو «بطئية» بدلاً من بطيئة؟ وما إلى ذلك من الأغلاط التي يمكن تلافيها بوجود مراجع ماهر.
على أني لن أختار أن أنهي الحديث عن الكتاب إلا بالدعوة لقراءته. فالكتاب ليس علمياً بحتاً -وهذه إشارة لمن لا يحب قراءة الكتب العلمية أو المتخصصة بعالم الأحياء- فبين الفصل والآخر سنقرأ عن علاقة بين أب وابنه، كان أساسها ثعبان البحر فقط. ستُسرّ ولا ريب عندما تُنهي الكتاب وقد صرت تعرف الكثير عن المخلوق الأكثر غموضاً في عالم البحار، وقد كنتَ تحسب أنّ هذا الكائن لن يثير اهتمامك يوماً، لا بل وربما ستخصّه بالاحترام، أو على الأقل هذا ما حدث معي.