حيدر المحسن
"أيدّعي صحبةً
من لا يحسن صحبةَ نفسه؟"
هكذا يتساءل الشاعر عبد الكريم كاصد، ببراءة، ويبدو السؤال هنا يشبه الجواب، وقد أتى بديهياً إلى حدّ أنه يقطع الطريق على السائل، كي لا يفكّر في الأمر ثانية:
"فرّقتني في الجمع ثمّ جمعتني
فُرَقاً كما جُمعَتْ خيولُ طرادِ"
لم يعطِ عبد الكريم كاصد هويّة لكتابه "أحوال ومقامات" - حوالى 200 صفحة - لكن أكثره جاء بصورة قصائد نثر طويلة، وقصيرة، وقصيرة جداً تحمل كلّ منها رقمها:
61- باتجاه الشيخوخة يمضي العقلاء، والمجانين باتجاه الطفولة.
71- يتطلّع إلى السماء دوماً، وفي مرآتها لا يبصر غير الأرض.
ويميل كاصد إلى إشباع حروفه بروح السخرية، المرارة التي يعيشها ابن عصرنا تجعل الشاعر متهكّماً كي لا يسود الجِدّ على الكلام وعندها تبدو الظلمة مطبقةً تماماً، لكن صبغة الهزل التي تخفّ بها قتامة المشهد، ترسّخه أكثر. يصنع كاصد في وجوهنا ابتسامة تضيء العالم:
38- محبته وكراهيته وجها عملة واحدة.
47- شرس في جوعه، وشرس في شبعه.
65- يقولون للضحية أن تنهض، وللجلّاد أن يستريح.
وهكذا يدقّ الشّعر على الوتر بصوت أعلى حين تقلّ حروفه، ويذكّرنا هذا النوع من الكتابة بال"منمنمات" الشعرية لدى أنطونيو بورشيا، تُرجمت له إلى العربية مختارات منها تحت عنوان "أصوات". وكذلك منمنمات بورخيس، وسيوران، وبيسوا، وفي عالمنا الناطق بالعربية جرّب الروائي إبراهيم الكوني كتابة هذا النوع من الجمل التي تحمل طبيعة الشعر والنثر في الوقت نفسه، لكن محاولاته بقيت بعيدة عن الشعر، وعن النثر.
سؤال: إلى أيّ صنف أدبيّ تعود هذه الأبيات أو الجمل أو العبارات التي تبدو لنا غريبة. أنا أدعوها منمنمات. المُنَمنمة تعني رسماً دقيقاً مفصّلاً فيه كلّ ما يتعلّق بحياتنا:
تفرّقَ الناس حتّى لا اجتماعَ لهم
وأجمعوا الأمر في التفريقِ والفرقِ
إنها نوع جديد من الكتابة، تجمع بين الحكمة والقول الناصع والتجربة الثرّة. لاحظوا معي الإيقاع المغتمّ في هذه القصيدة:
"بنفسيَ تلك الأرض ضاقتْ بأهلها وأضحتْ مزاراً: شاهداً وضريحاً"
يقرّب الشّاعر الحقيقة إلينا ونراها كأنما في عدسة مجهر، ونكتشف عندها أنها لا توجد في الواقع رغم محاولة جميع العتاة في التفكير السليم إثبات عكس ذلك. يوجد الحقّ في الأفكار الغريبة وفي الخيالات والاحلام.
توسّعت في إحدى منمنمات كاصد في أثناء القراءة، فتمدّدت لديّ فوق الورق، وصارت قصة أعطيتها هذا العنوان "هكذا ننتهي كما بدأنا":
((في زاوية من القبر يكتشف أحد الموتى خطأً ما، شقًّاً ينفذ من خلاله ضوء القمر الخفيف البطيء الذي لا يراه أحد. هو مرهق بذكرياته، وها هي إحداها تلحّ عليه أن يستيقظ. استسلم إلى حالة من العداء أمسكت به دون رحمة، وظلّ أسيراً لها حتى انبلج النهار. كانت الساعة خارج القبر الرابعة عصراً على وجه التقريب، وشبه الظلّ المعتم يسود المكان. الميت يزحف، وجدران القبر تتقهقر. يتلمّس دربه في التراب العصيّ، وهو يشعر بسعادة عظيمة يعجز وصفها لأنه عثر على أحد غرمائه راقداً في حفرة بالقرب منه. ملأ منه عينيه حيث يرقد أبيض الوجه ساكناً في نعشه. اقترب منه. انحنى. جرّب التلفّظ ببعض الكلمات، ثم نجح أخيراً في القول: "ها نحن التقينا أخيراً وكل ما حصل في الماضي يعود من جديد".
ومن دون أن يتبادلا كلمة واحدة، التحمت الرؤوس والأيدي والسواعد والأذرع، وحتى الأقدام في اقتتال أبديّ.
كانا سعيدين!))
في منمنمات عبد الكريم كاصد نجد كلّ ما نطلبه من الشعر والنثر. جزيل الشكر له إذن لأنه كتبها وهو يجلس في ظلّ نخلة في منتصف النهار، يحتسي النبيذ ويأكل الخبز والعسل، ويتحدث إلينا عن الحقائق.
ما الذي نقوله عن الكائن الذي: "يرتفع وعيناه على الهوّة التي تحته أبداً"؟
جميع التعليقات 1
كريم سعدون
رائع دكتورنا العزيز، إضاءات مركزة، ارجو ان يكون العنود الجديد من حصة الكوني في ما اسميته بالمنمننات الشعرية ، تحية لك