لطفية الدليمي
لاتكادُ تغيب عن بالي صورة الفيزيائي اللامع ( روبرت أوبنهايمر ) الذي قاد مشروع مانهاتن لصنع القنبلة الذرية وهو يشهد أول تفجير ذري في تموز 1945 . وقف الرجل حينها كاتماً أنفاسه ، واستذكر أبياتاً من كتاب الباغافاد غيتا ( الكتاب المقدّس للهندوس ) تقول : الآن أصبحتُ الموت ، مدمّر العوالم ! .
يحضرني في صورة مقابلة لصورة أوبنهايمر / البطل الاميركي صورته مع الرئيس الاميركي ( ليندون جونسون ) وهو يقلّده وسام الحرية عام 1966 . كان أوبنهايمر حينها حطاماً بشرياً متهالكاً لايصعب علينا أن نراه تجسيداً لمعاناة نفسية مريرة وندم قاتل جعلا من أوبنهايمر ، الشاب الوسيم الذي ينبئ بمستقبل أكاديمي رفيع ، ينتهي إلى تلك النهاية البائسة . لم يعش أوبنهايمر طويلاً بعد ذلك ؛ فقد مات عام 1967 متأثراً بسرطان قاتل وهو لم يتجاوز الثالثة والستين من عمره .
هل كان أوبنهايمر تجسيداً لكائن فاوستي أم بروميثيوسي ؟ هل رأى في ذاته كائناً يعمل على دفع العلم خطوات إلى أمام أو أنه باع نفسه لشيطان فاوستي ؟ نعلم أنّ المقصلة الماكارثية طالت أوبنهايمر ولم يشفع له كونه عقلاً أدار مشروع مانهاتن بكفاءة وجعل أميركا تحوز السلاح النووي قبل غيرها من البلدان ، وقد بلغ الأمر حدّ إخضاع أوبنهايمر لسلسلة محاكمات مخزية شهد فيها بعض أقرب أصدقائه عليه شهادات أطاحت بمكانته العلمية وعاثت في روحه تدميراً متوحشاً دفعه إلى حافة اليأس المميت .
يدلّنا واقع الحال وخبرتنا البشرية أنّ الحدود الممكنة لكلّ من المنجز العلمي ( البروميثيوسي ) والتفلّت ( الفاوستي ) من كل محدّدات أخلاقية هي حدود لانهائية ؛ إذ ما إن يتحقق هدف علمي أو تقني حتى تنفتح الآفاق أمام أهداف أخرى أبعد مدى من سابقاتها . هذه هي الحقيقة إذن في صيغة ثنائيات مشتركة : تطور لانهائي في مقابل موت شامل، وقدرة فائقة على الإرتقاء بالحياة مقابل قدرة فائقة على الإماتة والقتل والتدمير. هل باتت حياتنا رهناً بمقامرة فاوستية لامجال فيها لربح ( بروميثيوسي) خالص إلا مقابل خسارة فادحة بسبب مقامرة فاوستية ؟ هل استحالت مسيرة العلم المبشّرة بملحمة بشرية بروميثيوسية كابوساً ديستوبياً مؤرقاً ؟
كلنا نعرف أن السياسيين مقامرون فاوستيون بصيغة أو بأخرى: هم يفضّلون النتائج السريعة التي يجتنون منها مكسباً على الجهود طويلة الأجل التي تتطلّب تضحيات بالمواقف الآنية، وقد أبانت الجائحة الكورونية أنّ هذه البراغماتية السياسية القبيحة التي لو كنّا قبلناها من قبل على مضض فلن يكون مقبولاً الإبقاء عليها في قادمات الأيام .
يعتمد مستقبلنا على اتخاذ خيارات حكيمة بشأن التحدّيات المجتمعية المفصلية : الطاقة، الصحة، الغذاء، الروبوتيات، البيئة، الفضاء، وسواها . هذه الخيارات تعتمد العلم بالضرورة ؛ غير أنّ القرارات الجوهرية لاينبغي أن يتخذها العلماء وحدهم دون سواهم لأنّ تلك القرارات تهمّنا جميعاً ولابد في كلّ الأحوال أن تكون حصيلة ناتجة عن مناقشات جمعية شاملة واسعة النطاق، وإلى أن يتحقّق هذا الأمر على أرض الواقع بفاعلية مؤثرة نحتاج جميعاً لتطوير " شعور " جمعي تجاه الأفكار الأساسية في العلم فضلاً عن امتلاك بصيرة مدرّبة تؤهّلنا لتقييم المخاطر والإحتمالات والمآزق وعلى نحو يجعلنا محصّنين - بقدر مايمكن - من الوقوع في شرك الخبراء التقنيين ذوي الأجندات الخاصة أو الشعبويين الذين لايجيدون سوى تمجيد الشعارات الكبيرة الخاوية التي دفع أوبنهايمر حياته ثمناً لمقامرتها الفاوستية.